لستُ مثقّفاً

لستُ مثقّفاً

02 مايو 2014
عمل لـ كارين أرنو / الكونغو
+ الخط -

المشهد الأوّل: أقف أمام المرآة لأعدّل ربطة العنق وأتثبّت من تناسق الألوان، ثمّ أسأل زوجتي مرّة أخيرة فتقول لي: أنيق، مثل المثقّفين الذين يظهرون على التلفزيون ويشاركون في المهرجانات.

شعرت أنّها تسخر منّي ثمّ غيّرت رأيي واعتبرت كلامها دعابة..

سألتني قبل أن أخرج: لن تأخذ السيّارة إذن.. أنت متأكّد أنّ المواصلات متوفّرة؟

أجبتها: طبعاً طبعاً... أين سأركنها في سيدي بوسعيد.. أخشى أن أضيّع الوقت في البحث عن مكان وأضيّع فرصة المشاركة في حفل القراءة.

المشهد الثاني: ركبت القطار نحو سيدي بوسعيد، ومن النافذة المحاذية رأيت الغيوم تتجمّع بكثافة وتنذر بعاصفة قوية.. ولكنّي مطمئنّ فالمظلّة معي... أخرجت ورقة من جيبي وأخذت أقرأ النصّ.."سيعجبهم وسيصفّقون"، هكذا حدّثت نفسي.. كل الذين قرأت عليهم هذا النصّ من أصدقائي أبدوا إعجابهم نظراً لطرافته... كنت أقرأ وأعيد القراءة، وبين الحين والآخر أبتسم حتّى أنّ الجالس بجانبي، أخذ يتململ ويحاول النظر في الورقة ..وفجأة بدأ المطر يتهاطل بغزارة ويضرب بلور النافذة بقوّة.. طويت الورقة وأعدتها إلى جيبي.. ظللت أشاهد المطر وأحسست ببعض القلق.

المشهد الثالث: وصل القطار، والمطر يزداد غزارة لا تنفع معها المظلّة... بقيت في المحطّة أنتظر حتّى يخفّ دون جدوى.. وفي مثل هذا الطقس، لا يمكن العثور على سيّارة أجرة بسهولة... ترجّلت صاعداً نحو قصر النجمة الزهراء حيث تنعقد جلسة القراءة والنقاش، وكان المطر غزيراً جدّا فبلّل البنطلون وتسلّل الماء من حذائي وأنا لا أحب الرطوبة في قدميّ.. بدأت أفكّر بنزلة البرد التي ستصيبني في المساء.. وندمت على ترك السيّارة... ندمت بمرارة.

المشهد الرابع: لمحت شجرة قريبة فأسرعت لأحتمي بها من السيول التي تأتي من كلّ الاتجاهات.. وفي قرارة نفسي لعنت الثقافة والمثقّفين. وبدأت أفكّر في طريقة الوصول إلى ذلك المكان في أعلى هضبة سيدي بوسعيد... بعد نصف ساعة تقريبا مرّت بعض السيّارات فهممت بأن أستوقفها ولكنّي تراجعت بسبب فخامتها.. كنت وحيداً في ذلك المكان وكانت الصواعق مخيفة.. هل سأظلّ عالقاً هنا؟ أمسية ثقافيّة تحت المطر؟ ابتعدت عن الشجرة قليلا حتّى يراني السائق القادم في شاحنة خفيفة.. أشرت إليه فتوقّف.

المشهد الخامس:

ركبت السيّارة، وقد تنفّست الصعداء.

نظر إليّ السائق وكان يلبس سترة ملوّثة بكلّ أنواع الدهن، فبادرته بالجواب عن سؤال ظهر في عينيه:

أريد الوصول إلى قصر النجمة الزهراء.. هل تعرف العنوان؟

قال السائق: أنا أعرف المنطقة بيتاً بيتاً، دخلت جميع البيوت تقريبا فأنا أعمل مع شركة عقاريّة، نبني ونرمّم وندهن...

قلت له: جميل..

السائق: انظر هذا قصر المخلوع.. لقد عملت فيه أيضاً...

ونظرت من النافذة إلى البناء الكبير..

سألته: ولكنّه مغلق الآن؟

السائق: لا أدري، الحراسة ما زالت موجودة...

...

السائق: لماذا تريد الذهاب إلى النجمة الزهراء

فكّرت أن لا أجيب، ثمّ قلت له: سأشارك في مهرجان الكلمة.. سأقرأ نصّاً مع كتّاب آخرين. وبعدها سنتجادل.

ضحك السائق وقال: لأوّل مرّة أسمع بهذا المهرجان.

وفجأة أوقف السيّارة وقال: تفضّل يا صديقي، القصر أمامك على بعد خمس دقائق مشياً.

شكراً... بارك الله فيك!

المشهد الأخير: السيّارات الفاخرة التي مرّت منذ حين موجودة هنا إذن.. كنت الوحيد الذي تبلّل ووصل متأخراً.. لم أجد أحداً يقرأ، وإنّما هي حلقة نقاش حول الربيع العربي باللغة الفرنسيّة.. ومن بين الحاضرين مقدم نشرة الأخبار المشهور على تي أف 1 باتريك بوافر. جلست مع جمهور صغير أستمع إلى النقاش، وبعد نصف ساعة نهضت لأغادر...في الخارج وجدت الشمس تتسلّل من جديد من بين الغيوم، دخلت السوق واشتريت فطيرة ساخنة مغموسة في العسل.

عندما قرّرت أن أصبح مثقفاً (بالمفهوم الذي يعني الدخول إلى دائرة الضوء)، ارتكبت بعض الحماقات التي تصلح لتصوير فيلم قصير سينجح حتماً في إضحاك الجمهور وإدخال البهجة عليه... وأنا مستعدّ لكتابة السيناريو وتمثيل الدور الرئيسي باعتباري البطل الذي عايش الأحداث وأراد أن يبلغ هدفاً بدا في النهاية مستحيلاً.

كانت البداية مع مهرجان "كلمة"، وهو مهرجان محلّي لا أعتقد أنّ أحداً سمع به. فقد أدركت لاحقاً أنّ تلك المهرجانات التي لا تشعّ كثيراً، تقام لتحقيق رغبات سياحية لبعض "المثقفين" القادمين من فرنسا للتمتّع بأشعّة الشمس الساطعة دوماً في بلد الياسمين تونس.

وتقوم فكرة المهرجان على دعوة كتّاب وفنانين لقراءة نصوص متنوّعة باللغتين الفرنسيّة (أوّلاً) والعربيّة (ثانياً)، تصحبها مقطوعات موسيقيّة وتشفع أحياناً بحلقات نقاش.

اللغة الفرنسية مهيمنة طبعاً، فلا ثقافة في تونس إلاّ بها، والمؤسّسات الثقافيّة الفرنسية تقدّم دعماً ماديّاً كبيراً لتكريسها، ويكاد اسم المثقّف لا يمنح في بلدنا إلا للمتكلّمين بلسانها من بني جلدتنا، ومنهم من لا يعترف باللغة العربيّة الفصحى فيفضّل العاميّة عليها.. وذلك التوجّه لا يخلو من تآمر على هويّة البلاد وثقافتها، لذلك تبذل في سبيل تهميشها أموال طائلة، وتساهم في ذلك التهميش، بوعي مبيّت، قنوات إذاعية وتلفزيونية تتحدّث بلغة هجينة هي خليط من العامية والفرنسية...

وعموماً، لا تقيم وسائل إعلامنا وزناً للثقافة بمفهومها الشامل الذي يضمّ جميع التوجّهات والحساسيّات. وأغلب الصحافيّين العاملين بها لا يقرأون ولا يكتبون ولا يعرفون من الكتّاب إلاّ بعض الأسماء القديمة التي حفلت بها كتبنا المدرسيّة الفقيرة شكلاً ومضموناً. وينطبق الكلام على ما يسمّى بالاذاعة الثقافيّة التي أسندت لها تلك الصفة ظلماً وعدواناً عليها وعلى المثقفين في آن واحد. وهي كغيرها من وسائل إعلامنا، تدعو إلى بعض برامجها نفس اللوبيّ الذي يستأثر بصفة المثقّف باعتبارها مورداً للتكسّب من عطايا وزارة الثقافة ومطيّة لتمثيل البلاد في شتّى التظاهرات والمهرجانات المحلية والدولية.

في هذه الأجواء الثقافية العليلة، عزمت على المشاركة في المهرجان المذكور، بعد أن شاهدت معلّقته الإشهارية على شبكة الأنترنت. فاتصلت بالرقم الذي كتب بخطّ صغير أسفل المعلّقة لأطلب انضمامي إن أمكن لثلّة القرّاء أو المقرئين بلسان عربي مبين. وكانت المفاجأة أنّ مديرة المهرجان راقصة معروفة أوأستاذة رقص لها باع وذراع في ميدانها.

ولمّا بادرتها بتقديم نفسي، سارعت إلى الاعتذار لأنّها لا تعرفني، والسبب أنّها لا تعرف الكتّاب الذين يكتبون باللغة العربية. ولم يخل تعليلها من التفاخر بكونها تقرأ وتكتب باللسان الفرنسيّ. وأنا لا ألومها ولا أعرف من ألوم أيضاً، ولكنّي تساءلت في سرّي عن الجهة التي تقف وراء تسميتها لإدارة مهرجان يهتمّ بلغة العقل لا بلغة الجسد. وقد فوجئت في نهاية المكالمة بترحيبها، ووعدتني بإرسال الدعوة التي تخوّل لي المشاركة. وكانت صادقة الوعد.


* كاتب من تونس

دلالات

المساهمون