كهف البيروقراطية الأميركية

كهف البيروقراطية الأميركية

25 مارس 2014
المنطقة التي يقع فيها الكهف الحكومي (عن واشنطن بوست)
+ الخط -

شاحنات محمّلة بالأوراق تأتي كل يوم، تقف في طريق ريفي شمال بيتسبرغ وتنزل عبر بوابة إلى باطن الأرض. 

تحت الأرض، تتوقف السيارات عند باب معدني مزخرف وعليه العلم الاميركي.
يفتح الباب على غرفة كبيرة تشبه السوبر ماركت، كلها خزائن من خمسة أدراج لحفظ الملفات، والناس يعملون.
المكان يقع عند نحو 230 قدما تحت سطح الأرض، وهناك صوت موسيقى يرتفع من مكتب موظف ما.
هذا هو واحد من أغرب أماكن العمل في الحكومة الأميركية، سواء بالنسبة لمكان تواجده، ونوع العمل الذي يقوم به.
بهذه العبارات، تبدأ جريدة "واشنطن بوست" تحقيقها الميداني، ويضيف كاتب التقرير دايفيد فاهرنسولد تحت عنوان "بالوعة في البيرقراطية" مشاهداته.

نفق المتقاعدين
هنا، داخل كهف من الحجر الكلسي في ولاية بنسلفانيا يعمل 600 موظف من مكتب إدارة شؤون الموظفين. مهمتهم ليست سرية. هم يصدرون أوراق التقاعد للعمال في الحكومة.

ولكن نظام العمل هنا معيوب بطريقة مذهلة. إذ لا يزال يتعين أن تتم معالجة الملفات بشكل يدوي بالكامل، ويتم استخدام الورق بشكل كامل تقريباً في عملية إنجاز المعاملات.

يمرر الموظفون هنا الآلاف من ملفات القضايا من كهف إلى كهف ثم يدخلون البيانات الشخصية للمتقاعدين، في وقت واحد.
يعملون تحت الأرض ليس من أجل السرية ولكن بسبب المساحة الواسعة للكهف. فأنفاق المنجم القديم هذا تتسع لأكثر من 28 ألف خزانة حفظ للملفات والسجلات الورقية.

هذا المكان الغريب يمثل صعوبة الخروج من نظام بيروقراطي كبير. فهذا المنجم يعمل ببطء على تجميع الأوراق، تماماً كما كان يفعل في عام 1977.

"في عام 1981 كانت الحاجة للمكننة واضحة"، قال جيمس موريسون، الذي أشرف على نظام معالجة ملفات التقاعد في عهد الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان.
وأشار موريسون إلى أن حالة من الرعب سيطرت عليه عندما علم أن النظام يعمل على الورق: "بعد سنة، فكرت أن هذا النظام سيدمر سمعتي، بحيث لم يكن هناك حل لهذه المشكلة".
أما الصدمة، فهي حين أعلن موريسون أن هذا النظام لا يزال مستمراً حتى اللحظة ورد قائلاً: "ماذا؟!".

وجود منجم يتعاطى بإجراء الأوراق الفيدرالية ليس معروفاً جيدا، وحتى ضمن القوى العاملة الفدرالية، وغالبا ما يتم التعامل مع هذا الموضوع على أنه أسطورة.
ويقول أنيش شوبرا، الذي يشغل منصب كبير المسؤولين التكنولوجيين للرئيس باراك أوباما: "هذا الكهف مجنون".

حالات مشابهة

ولكن المنجم ليس أسطورة بل حقيقة، وما يحدث داخله ينتمي إلى فئة استعصاء مشكلة الحكومة: الاستمرار في أخطاء تقوم على بيروقراطية تضيع المال ووقت العمال.

في بعض الحالات، تكون أسباب هذه الظاهرة قانون معقد أو اجراءات بيروقراطية.

في ولاية نيو جيرسي مثلا، وجد أحد الباحثين أن عملية الموافقة على مشروع جسر استمرت لسنوات، ويرجع ذلك جزئياً الى قيام المسؤولين بالمسح التاريخي لجميع المباني ضمن مسافة ميلين والسعي إلى تعقب عدد من القبائل الهندية في اماكن بعيدة مثل أوكلاهوما

ما يؤدي الى هذا الخلل هو تكنولوجيا الحكومة ذاتها. إذ إن مشروع التغطية الصحية، تأخر اطلاقه بسبب خلل حصل في موقع الانترنت الخاص بهذه الخدمة. وهناك تجارب أخرى، فقد أجرى مكتب الإحصاء تجربة فاشلة مع أجهزة الكمبيوتر المحمولة باليد، ثم عاد إلى الورق، ما رفع الكلفة الاضافية الى 3 مليارات دولار. وكانت وزارة شؤون المحاربين القدامى قد واجهت مشكلة مع نظام السجلات عبر الإنترنت، ما أدى الى تراكم الكثير من الأوراق في مكتب واحد وخاف مدققو الحسابات من انهيار أرض المكتب.

كلفة على المواطنين

تولى أوباما منصبه مع الأمل بالإصلاح، وقال في خطاب الرئاسة: "السؤال الذي نطرحه اليوم ليس ما إذا كانت حكومتنا كبيرة جدا أو صغيرة جدا، ولكن ما إذا كانت تعمل".

ولكن، في كثير من الأماكن في الولايات المتحدة، الأنظمة الفدرالية لا تزال غير عاملة بشكل جيد. بعض من التفسير يمكن العثور عليه هنا، في هذه البيروقراطية الممتدة تحت الأرض.

إذ انه خلال السنوات الـ 30 الماضية، أنفقت الإدارات أكثر من 100 مليون دولار في محاولة لمكننة عملياتها الادارية القديمة، لتصبح أكثر تطوراً من خلال ادخال اجهزة الكومبيوتر الى هذه العمليات.

ولكن تبين أن الادارات غير قادرة على مواكبة المكننة. حتى الآن لا يزال تشغيل المنجم يقوم على سرعة أصابع الإنسان وأقدامه.
هذا الفشل يفرض تكاليف على المتقاعدين، الذين يضطرون إلى الانتظار عدة أشهر للإفادة من صرف شيكاتهم. كما تم فرض تكاليف على دافعي الضرائب: فقد استطاعت إدارة أوباما تسريع وتيرة العمل في المنجم من خلال زيادة عدد الأصابع والأقدام. فقد زاد عدد الموظفين العاملين في المنجم بواقع 200 شخص على الاقل في السنوات الخمس الماضية. وزادت تكلفة كل معاملة من $ 82 إلى $ 108، حيث بلغ إجمالي الإنفاق على نظام القيام باجراءات التقاعد 55 مليوناً و800 ألف دولار.

مراوغة الوقت

وفي مقابلة داخل المنجم، اعتبر مسؤول في المنجم أن عملية تحسين العمل فيه "ناجحة للغاية". ولكنه أحجم عن الرد عندما سئل عما اذا كان نظام التشغيل في المنجم حديثاً. وقال المسؤول "ماذا يعني حديث؟".

وتبدأ الخطوة الأولى في المنجم عندما يقدم موظف أوراق تقاعده لإحدى وكالات التقاعد. ويوجد حوالى 100 ألف عملية سنوياً من هذا النوع. في غضون بضعة أيام، تبدأ الحكومة بارسال "دفعات مؤقتة" للمتقاعدين، وهي شيكات تصل قيمتها إلى حوالي 80 في المئة من معاشاتهم التقاعدية. وهي محاولة للتغلب على الوقت الذي تستغرقه عملية اجراء المعاملات في المنجم.

ثم، تبدأ الورقة بالتحرك. ويتم تجميع أوراق التقاعد في ملف عبر الاستعانة بسجلات الموظفين. وهذه السجلات تأتي عبر شركات البريد، وتستلزم حوالي اليومين لتصل الى المنجم.

كل الأوراق التي تأتي على شكل حزم، تأتي الى المنجم، عبر الطرق المتعرجة داخل النفق، من خلال الباب الذي يحمل العلم الأميركي.

"أنت لا تنسى أنه كهف"، قال اشلي ويبر، وهو موظف سابق عمل على الملفات الواردة إلى المنجم. "ولكنهم يحاولون جعل المكان يبدو وكأنه ليس منجماً".

ولكن لماذا معاملات المتقاعدين موجودة في كهف؟

الجواب عن هذا السؤال هو أنه، في عام 1958، كانت حكومة الولايات المتحدة تحتاج الى مساحة لتخزين ملفاتها. وكانت الحاجة لمكان مساحته حوالي 30 ألف قدم مربع لحماية ملفات الموظفين التي يجري نقلها من مبنى في واشنطن. بحث المسؤولون في المباني في ريتشموند، فرجينيا، وسيراكيوز، نيويورك، قبل اختيار هذا المكان. فهذا المنجم كان يضم 1000 عامل يحفرون في الحجر الكلسي لتغذية مصانع الحديد.

وقامت شركة خاصة بتحويل المكان إلى صندوق إيداع آمن وهائل: آمن من الطقس والسوفيات. اليوم، تعود ملكية الكهف الى شركة آيرون ماونتين، التي تؤجر الكهوف الأخرى لتخزين بكرات الأفلام الهوليوودية القديمة والمحفوظات الفوتوغرافية الأرشيفية.

دلالات

المساهمون