كامل داود: العربي كان اسمه موسى

كامل داود: العربي كان اسمه موسى

26 يونيو 2014
+ الخط -

"أظن أنني أريد إحقاق العدالة. ولا أقصد بذلك عدالة المحاكم، بل عدالة التوازنات"، جملة نقرأها في رواية الجزائري كامل داود "ميرسو، تحقيق معاكس" التي صدرت حديثاً عن دار "أكت سود" الباريسية وتتوق إلى ما لا يقل عن وضع حد لاستعمار الأدب. كيف؟ عبر أخذ رواية مواطنه ألبير كامو "الغريب" (1942) كموضوع وهدف.

في رواية "الغريب"، أشهر أعماله، يسرد كامو قصة فرنسي يدعى ميرسو يقوم، على أثر تخبّطه داخل ملل وجودي في الجزائر، خلال فترة الاستعمار، بقتل شاب، "العربي". من جهته، يتناول داود القصة نفسها لكنه يبتكر أخاً للضحية ويسرد على لسانه أحداث روايته؛ أخاً يدعى هارون ويقول لنا في بداية الرواية: "كان أخي يدعى موسى. كان لديه اسم. لكنه سيبقى "العربي" إلى ما لا نهاية. [...] منذ قرون والمستعمر يزيد من ثرائه بمنح أسماء لما يتملّكه، وبنزعها عما يزعجه. وإن سمّى أخي "العربي" فلقتله كما نقتل الوقت ونحن نتنزّه بلا هدف".

وفي هذا السياق، يروي لنا هارون، وكان قد صار عجوزاً، كيف بدأت قصته نهار أحدٍ مشمس في صيف 1942، على شاطئ قريب من الجزائر العاصمة، عند الساعة الثانية من بعد الظهر. خمس رصاصات أطلقها فرنسي "باستهتارٍ عظيم" وأردى بها شقيقه الأكبر، موسى. "كيف يمكننا أن نقتل شخصاً ما ونسلبه حتى موته؟" يتساءل هارون، يتيم الأب، الذي سيتحمّل على مدى عقدين جنون أمّه وكراهيتها، إلى أن يقترف بدوره جريمته، فيقتل في اليوم الثاني من استقلال الجزائر (1962) فرنسياً في حجوط، المدينة نفسها التي دُفنت فيها والدة ميرسو.

باختصار، يفكك داود رواية "الغريب" لإعادة كتابتها "باللغة نفسها (الفرنسية)، لكن من اليمين إلى اليسار"، بادئاً من النهاية، ليقدّم قراءته الشخصية لقصتها. ومن هذا المنطلق يبدأ الراوي بتحقيقه الخاص حول جريمة قتل أخيه التي نكدت عيشه، من أجل التخلص منها وتأمين عودته إلى الحياة. لكنه، أثناء ذلك، سينزلق تدريجياً تحت جلد القاتل ويصبح - بقتله الفرنسي - قرينه.

وبالتالي، لا يتقصّد داود في روايته تصفية حساباتٍ مع كامو ومحاكمته، أو حتى محاكمة الاستعمار، وإن لم يخرج المستعمر سليماً منها؛ بل متابعة تساؤلات ميرسو ومواجهته لعالمٍ تعلوه سماء صمّاء وتجسيد ذلك "العربي" المجهول بمنحه اسماً، وماضياً، وأمّاً بقيت في حالة حداد حتى النهاية، وأباً غائباً، وأخاً يروي قصته للتخلص منها بعدما استعبدته وخلّفت لديه غضباً وشعوراً معذباً بالغبن شكّلا شخصيته وصاغا هويته.

هكذا تستحضر رواية داود قصة "روبنسون كروزو الذي ظن أنه سيغيّر قدره بتخلّصه من عبده "جمعة"، قبل أن يكتشف أنه سجين الجزيرة". مقارنة تجعلنا نقرأ الرواية كاستكشافٍ لعزلة رجلٍ يعثر في خضمّ يأسه على قوة جديدة تمنحه الشجاعة على الاستمرار في الحياة. لكن المقارنة تتوقف هنا لتبدأ مقارنة أخرى، أكثر إثارة، مع رواية كامو نفسها.

وفعلاً، تظهر معرفة داود العميقة برواية "الغريب" من خلال شخصية هارون القادر على "استظهارها كاملة"، وأيضاً من خلال توظيفه عناصر ومقاطع غزيرة منها داخل نصه، بعد تعديلها، كما هو حال المقابلة النهائية مع المرشد الديني الذي يتحوّل في رواية داود إلى إمام؛ أو مونولوج هارون الذي تتكوّن منه رواية "ميرسو، تحقيق معاكس" ويشبه إلى حد بعيد في بنيته مونولوج ميرسو في رواية كامو؛ أو مشهد هارون أمام ضابط الدرك الذي يرفع أمامه العلم الجزائري ويوبّخه على قلة وطنيته، والذي يستحضر مشهد ميرسو أمام القاضي الذي يرفع في وجهه الصليب ولا يلومه على جريمته بقدر ما يلومه على قلة حساسيته.

ولا ننسى مريم، المرأة الحرّة التي ستنير بجمالها وذكائها وبريق عينيها عزلة هارون لفترة قصيرة وتكشف له عن رواية "الغريب"، وتستحضر إلى أذهاننا شخصية ماري التي اعتقدت أنها قادرة على إنقاذ ميرسو بابتسامتها الساحرة.

لكن بينما تدهشنا رواية "الغريب" ببساطتها على جميع المستويات، تسحرنا رواية داود بالتفكيك السردي الذي يعتمده فيها. فشخصيته الرئيسية تذهب في مونولوجها في جميع الاتجاهات وتغذّي استطرادات طويلة حول مواضيع جانبية مختلفة.

وعلى مستوى الأسلوب، يكتب داود بعكس كامو، كي لا نقول ضده، فيبتكر لغةً فريدة مشحونة تارةً بالغضب وتارةً بالإثارة. وفي هذا السياق نفهم جملته الآتية: "أريد أن أفعل ما فعلناه في هذا البلد بعد الاستقلال: أن آخذ حجارة منازل المستعمرين، واحدة تلو الأخرى، وأشيّد لنفسي منزلاً، لغةً"؛ جملة تفسّر وتبرّر استيلائه المشروع على موضوع رواية كامو، ونبرة الراوي العدائية التي لن يلبث داود أن يغنيها بنظرة ثاقبة ومتبصّرة حول وضع الجزائر اليوم، وبتأمّلٍ عميق في الذات والآخر والعالم والله.

باختصار، رواية في خمسة عشر فصلاً محبوكة بشكلٍ دائري كطريقٍ كشفية تتخللها رموز مختلفة واستحضارات ليس فقط لرواية "الغريب" بل أيضاً لـ"جحيم" دانتي وللتوراة، بدون أن ننسى رواية كامو الأخرى، "السقطة"، التي تحضر بدورها إلى أذهاننا بموضوعاتها (الحقيقة، الكذب، الخبث...) وشخصيتها الرئيسية جان باتيست كلامانس التي تتقاطع مع شخصية هارون في مناجاة النفس، ومكان هذه المناجاة (الحانة)، والسخرية اللاذعة وتفحّص الضمير والبوح اللانهائي.

المساهمون