كاذبون مع سبق الإصرار

29 يناير 2015
+ الخط -
"بينوكيو" طفل يطول أنفه كلما كذب في حديثه، ويستمر في النمو كلما استمر في الكذب. اخترع شخصيته الفريدة الروائي الإيطالي، كارلو كولودي، ليكون بطل قصته التي نشرها في عام 1880، والتي ترجمت إلى لغات عديدة، واقتبسها كثيرون في نسخ قصصية محلية، ثم تحولت إلى أفلام سينمائية وكرتونية، عشقها الكبار قبل الصغار، إعجاباً بهذه الخاصية العجيبة التي تكشف الصغير بينوكيو، كلما أقدم على الكذب.
ماذا لو كانت هذه الخاصية لدى كل البشر؟ عندها سنمشي في طرقات العالم نعاني من كثرة حوادث المرور التي سنعاني منها بسبب التصادمات بين أنوفنا الطويلة! فكلنا، ربما من دون استثناء نكذب. لكن، مع تفاوت كبير في مستوى الكذب ونوعه وطبيعته وأسبابه ودرجة خطورته علينا وعلى الآخرين. وصحيح أن الديانات كلها حرّمت الكذب، واعتبرته من الرذائل وآيات النفاق، إلا أن البشر استطاعوا أن يخترقوا التحريمات الدينية، بوسائل وحجج عديدة، فهناك من جعل الكذب ألواناً مختلفة، ليضفي على ما يمارسه من كذب اللون الذي يخرجه من دائرة الرذائل والنفاق. وهناك من بحث له عن مسوغات شرعية، ارتقت به، لأن يكون من الفضائل فعلاً. وفي الفقه الإسلامي مبحث مهم في ذلك! وفريق ثالث جعل منه صفة إيجابية خاصة بالرجال، فقال إن الكذب ملح الرجال، مثلاً، وكأنه يحلله عليهم مقابل تحريمه على النساء! لكن الكذب ظل، على الرغم من كل تلك المحاولات أحد أبشع الصفات التي يمكن أن يتصف بها الكائن البشري، وحتى الذين حاولوا تجميله قليلاً فعلوا ذلك، بعد أن أخرجوه من دائرة الكذب الصريح، ليكون شيئا آخر، حتى يستطيعوا تقبله، وإقناع الآخرين به.
ولأن كثيرين يعرفون أن بينوكيو ليس سوى شخصية خيالية، فلا يمكن كشف الكذابين بهذه الطريقة السهلة والبسيطة، أخذوا يكذبون على راحتهم بلا حسيب ولا رقيب من دين أو ضمير!
ومع أن الكذب كله رذيلة، وكل الكذابين ليسوا جديرين بالاحترام، إلا أن فئات منهم هي الأخطر في كذبها، لأنه يتجاوز الحالة الفردية أو الشخصية، ليكون حالة جمعية عامة تسيء للجميع تقريبا. والأمثلة كثيرة، أولها زعماء يكذبون، ليلاً ونهاراً، على شعوبهم التي تعرف أنهم يكذبون، لكنها تصمت غالباً حتى حين! وهناك، أيضا، سياسيون يكذبون بحكم المهنة، كما يبدو، والغريب أنهم لا يخجلون من كذبهم المجاني السائر في العروق والوجدان والخطابات. وهناك، أيضاً، إعلاميون، وكذبهم مستشر، في هذه الأيام، في الصحف والفضائيات، فهم يكذبون علناً، وبغباء لا نظير له، ذلك أن كذبهم مسجل ومصور، لكنهم لا يهتمون، بل يستمرون في تسجيل الكذب وتصويره، حلقة بعد حلقة، وليلة بعد أخرى!
والفنانون يكذبون أيضاً، لكنهم يفعلون ذلك بسذاجة، ولأسباب مضحكة ورخيصة غالباً، إلا أنها مكشوفة جدا.
 ويختبئ الشعراء، والأدباء عموماً، وراء مقولة "أعذب الشعر أكذبه"، ليكذبوا على راحتهم وبموافقة القراء وإعجابهم!
ومن أخطر أنواع الكذب ما يمارسه مثقفون كثيرون، يملكون من المهارة ما يجعل من الصعب اكتشاف كذبهم، ثم إنهم في هذا الكذب، وبواسطته، يستطيعون تبرير كثير من أخطاء وخطايا الأنظمة السياسية التي يروجونها، ولأنهم "مثقفون"، يكتسبون نوعاً من الحصانة أمام الجماهير، يستغلونها في تكريس أفكارهم الكاذبة نفسها.
أما أخطر الكاذبين على الإطلاق فهم بعض المشايخ والدعاة والفقهاء، ممن يكذبون باسم الله، تعالى الله عن كذبهم وما يدّعون، وهم، بهذه "الميزة" التي اخترعوها لأنفسهم، لا يتورعون عن قذف من يشاءون في دائرة الكفر، تمهيداً لإرساله إلى جهنم، كما يوهمون من يصدّقهم من الجماهير الغفيرة.. والغفورة!
 

 

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.