كاداريه، بعين واحدة

03 مارس 2015

إسماعيل كاداريه... احتفاء إسرائيلي (8 فبراير/القدس/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -

تتشكّل ذاكرتي من بعض ما عشته، ومن كثير مما قرأته. ثلوج يشار كمال، فرسان إيتالو كالفينو غير الموجودين، جنرالات إسماعيل كاداريه الموتى، خفّة ميلان كونديرا التي لا تحتمل، عجائز كواباتا الشبقون، آلهة التراجيديا الإغريقية النزقون، جبل فقراء إيرّي دي لوكا، نساء فلوبير الضائعات المولهات، عذوبة شكسبير وعنفه، أبطال موزيل الذين من غير صفات، وأبرياء دوستويفسكي وبلهاؤه... القائمة تطول ولا تنتهي، وتضاف إليها كل حين، وبانتظام، أسماء جديدة.
ولأني أدرك، تماماً، أهمية الحيّز الذي يحتلّه الأدب في حيوات بعضنا، أتفهم، تماماً، الخيبات من مواقف بعض الكتّاب وسلوكياتهم، حين تأتي مناقضة، فكرياً وإنسانياً وسياسياً، لما تقوله أعمالهم الأدبية الرائعة، وعلى رأسهم، أخيراً، الكاتب الألباني إسماعيل كاداريه الذي أثار بقبوله "جائزة أورشليم"، مضافاً إليه تصريحه عقب تسلّمه الجائزة بأن إسرائيل وألبانيا "تناضلان من أجل البقاء في محيط مقيت"، عاصفة من التنديد والاستنكار في العالم العربي، حتى ليكاد يظنّ من لا يعرف أن الكاتب يحمل الجنسية الألبانية، أنه من أصول عربية. وقد عبّر اتحاد الكتاب العرب عن استنكاره الشديد قبول الكاتب الألباني الجائزة، داعياً "جميع الاتحادات والروابط والجمعيات الأدبية والأدباء والكتاب الشرفاء في العالم إلى مقاطعة الكاتب الألباني، إسماعيل كاداريه، لتورطه في هذا الموقف المشين، وانخراطه في المخطط العدواني الصهيوني ضدّ شعبنا الفلسطيني".
لست أدري إن كان قبول كتّاب عالميين آخرين، من أمثال سوزان سونتاغ، هاروكي موراكامي، إيان ماكوين، بورخيس، أوكتافيو باث، سيمون دو بوفوار، برتراند راسل، وسواهم، الجائزة نفسها، قد أثار عربياً، ردود الأفعال ذاتها. لكن، وبشكل آليّ وككل مرة، يخطر لي طرح السؤال مقلوباً: ما الذي يمنع العرب من استخدام "السلاح" الفعّال نفسه، ومنح كتّاب عالميين مكرّسين "جائزة الثقافة العربية"، أو أياً كان اسمها، كما تفعل إسرائيل، منذ عقود، مع جائزة أورشليم؟
ولو افترضنا أن جائزة كهذه تشكّلت بقدرة قادر، فأردنا اختيار كاتب عالمي نمنحه جائزة لنا، فمن تراه يكون سعيد الحظ، وما تراها ستكون جائزتنا واسمها وأهدافها؟
أولاً، لا ينبغي لمن سيقع الاختيار عليه أن يكتب في شؤون المرأة أو الجنس، لأنها تمسّ أعرافنا وتقاليدنا وأخلاقياتنا؛ ولا في أمور الديكتاتورية، لأنها تدغدغ حكّامنا؛ ولا في شؤون الحرية، إذ يكفينا ما بنا ونحن على أعتاب القيامة؛ ولا في مواضيع الدين، ففي المسألة عواقب وخيمة قد تنتهي بقطع الرؤوس؛ ولا في قضايا أقلياتنا الإثنية أو الدينية، لأن في هذا انتقاصاً لسيادتنا، وتحريضاً علينا.
ثانياً، ينبغي للكاتب العالمي الذي سنختار تكريمه أن يقرّ بفضل ثقافاتنا وحضارتنا وبتأثيرنا الرائع والإيجابي عليه.
وثالثاً، يجب أن يكتب ما هو بمستوى قدرتنا وقدرة قرائنا غير الموجودين أصلاً، على الفهم.
وفي النتيجة، من ترانا سنختار، لو أن مثل تلك الجائزة وجدت؟ باولو كويللو، أراهن، أو من يعادله، وهو الوحيد الذي استماله العرب، ومال هو إليهم، مع العلم أن المشهد العالمي الأدبي لم يعترف به يوماً، وذلك على الرغم من بيعه ملايين النسخ.
وإن وضعنا التهكم جانباً، ألا يمكننا جدّياً التساؤل: ما الذي يمنع العرب، مجسّدين في أية هيئة غير الهيئات الحكومية والرسمية التي تمثّل الأنظمة العربية، والتي سيرفض معظم الكتّاب الكبار ما يأتي منها، من تصويب السلاح نفسه للجائزة "العدوة"، ومنح كتّاب عالميين مكرّسين "جائزة الكتّاب العرب"، مثلاً، أو أياً كان اسمها، كما تفعل إسرائيل مع "جائزتها"، منذ عقود؟
لقد ذهب إسماعيل كاداريه لتسلّم "جائزة أورشليم"، ومن قبله ذهب كتّاب كثر آخرون. المشكلة ليست هنا. المشكلة في الثمن الباهظ جداً الذي يدفعه، من مصداقيته مدافعاً عن الحريات، مَن قَبِل أن يرى الواقع بعين واحدة، لا بعينين.

 

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"