قصة تغريبة عربية

20 فبراير 2015
+ الخط -

رُوي أن رجلاً دخل على المعتصم، فقال له: يا أمير المؤمنين، كنت في عمورية فرأيت امرأة عربية في السوق مهيبة جليلة، تُسْحَلُ إلى السجن، فصاحت في لهفة: وامعتصماه وامعتصماه.
فأرسل المعتصم رسالة إلى أمير عمورية، قائلاً له: من أمير المؤمنين إلى كلب الروم. أخرج المرأة من السجن، وإلا أتيتك بجيش بدايته عندك ونهايته عندي. فلم يستجب الأمير الرومي، وانطلق المعتصم بجيشه، ليستعد لمحاصرة عمورية، فمضى إليها، فلما استعصت عليه، قال: اجعلوا النار في المجانيق، وارموا الحصون رمياً متتابعاً ففعلوا، فاستسلمت، ودخل المعتصم عمورية، فبحث عن المرأة فلما حضرت قال لها: هل أجابك المعتصم. قالت: نعم.
فلما استقدم الرجل، قالت له: هذا هو المعتصم قد جاء وأخزاك. قال: قولي فيه قولك. قالت: أعز الله ملك أمير المؤمنين، بحسبي من المجد أنك ثأرت لي. بحسبي من الفخر أنك انتصرت، فهل يأذن لي أمير المؤمنين في أن أعفو عنه، وأدع مالي له. فأعجب المعتصم بمقالها، وقال لها: لأنت جديرة حقاً بأن حاربت الروم ثأراً لك. ولتعلم الروم أننا نعفو، حينما نقدر.
قصة كلما ذُكرَتْ، ألبستنا لباس العزة الذي لا يبلى عهده مهما تقادم. قصة طالما سقت شجرة الفخر الذابلة بأرض العروبة، بعدما تحولت إلى صحراء ورسم دار خالية من أبطالها وفرسانها وشجعانها. قصة كانت مبعث النخوة والحماسة والمروءة في نفوسنا، مبعث الأنفة والحمية في رجالنا ونسائنا.
وقال الشاعر العربي:
بلادُ العُربِ أوطاني/ منَ الشّـامِ لبغدانِ/ ومن نجدٍ إلى يَمَـنٍ/ إلى مِصـرَ فتطوانِ
قصيدة تغنّى بها الوطن العربي زمناً، وشعار سياسي رفعته الحكومات العربية دهراً، وسوق عكاظية بيعت بها للمواطن العربي بضاعة مزجاة مع ضمان الجودة بثمن نفيس، واتخذت من كلماتها مواد صالحة مصلحة لكل زمان ومكان في الوطن العربي، وغير قابلة للفساد والكساد، استُأجرت لها عقول الشعوب العربية مستودعات بلا أجر، كما حُفَت وغُلفت معانيها بعزّ النخوة العربية الجامحة، حولت المواطن العربي على أرض المعمورة ملكاً، إذا أهينت ذبابة وجهه نادى: "وامعتصماه". فهبّ لصدى صوته أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهارون، كلّهم قال لمهينه: "ليس الأمر كما سمعت. ولكن، الأمر ما سترى".
وبعد أن ضربت الوطن العربي زلازل وقلاقل، نُعي مَعَهَا الضمير الإنساني، وعلى تاج رأسه الضمير العربي، ولاح في الأفق أوطان وفدراليات وجهات شمالية وجنوبية، شرقية وغربية، وظهر في ربوعها أتباع المسيح الدجال، كما رُفعت بها في كل نجد وفجّ عميق راياتهم، وبعد أن توفى أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهارون، وتجمدت وماتت القلوب العربية مدفونة مقبورة مردومة بجوفها النخوة العربية.
وصار المواطن العربي يرى أطفالاً ذكوراً وإناثاً، شباباً وشيوخاً، رجالاً ونساء، يموتون بالصواريخ والقنابل والبراميل المتفجرة... بالقناصات والسكاكين، قتلاً وذبحاً، سحلاً وصلباً، يمارس على أجسادهم النحيلة، وتُصبُ على قلوبهم الضعيفة أنواع وأنواع من الألم والعذاب والوجع والوصب، وتحرق جلودهم بالنار والدخان والكهرباء، تقطع أطرافهم، وتباع أعضاؤهم.
يموتون بالبرد والجوع والخوف، فُرادى وجماعاتٍ، أغراباً وعائلات، محاصرين منبوذين مُهجّرين منفيين عن أوطانهم، لا ذنب لهم إلا إنسانيتهم. لا ذنب لهم، إلا أنهم أحسوا وشعروا بالذل والمهانة، فقال قائلهم: "أنا إنسان ماني حيوان".
وصار المواطن العربي يرى نساء ثكلى، وشيوخاً ركعاً، وأطفالاً رضعاً، تتعالى صيحاتهم، وتطلق حناجرهم ألحاناً، يهتز لها الكون، والوطن العربي، مؤسسات ومواطنين، أغنياء وشخصيات. الكل، إلا من رحم الله، يتوجع كما تتوجّع المرأة الحامل في طلقها في سرهم، ويرفعون قهقهاتهم، وعدم مبالاتهم في جهرهم، مخافة أن يُتّهم شرفهم بمساعدة الإرهاب وتمويله، بالماء والخبز والحليب تشبع بطونهم، وبالغطاء والكساء تحمي أجسادهم من أنياب البرد.
في ظل هذه الإلياذة المؤلمة، هل حان الوقت لمراجعة هذه القصيدة وتلك القصة؟ هل حان الوقت للتخلي عن حمل عبء أمانتهما من دون اعتذار؟ هل حان الوقت لفك سحرهما الأسود عن العيون؟ هل حان ذلك؟


 

 

avata
avata
عبد السلام جريوي (الجزائر)
عبد السلام جريوي (الجزائر)