قصة السودانيين اللذين تاها في الصحراء

21 ديسمبر 2017
لحظة العثور على التائهين (عن فيسبوك)
+ الخط -
نجا الأسبوع الماضي مواطنان سودانيان من الموت جوعاً وعطشاً بعدما ضلاّ طريقهما داخل الصحراء الكبرى لمدة سبعة أيام، قبل أن تنجح فرق الإنقاذ المكونة من طائرتين و4 سيارات رباعية الدفع من العثور عليهما في قصة لم يتوقع أحد نهايتها السعيدة.

أعادت قصة أحمد محمد عبد الله (47 عاماً) وزميله معتز محمد التيجاني قصص عشراتٍ ضلوا طريقهم في الصحراء، ومنهم من لم يعثر عليهم إلا موتىً أو حتى عظاماً، لا سيما أولئك الذين يخوضون مغامرة تهريبهم إلى ليبيا ومن بعدها أوروبا.

تمتد الصحراء الكبرى الى أعماق بعيدة داخل الأراضي السودانية في الجزء الشمالي الغربي، حيث الكثبان الرملية والجبال المتفرقة. وترتفع درجات الحرارة إلى أقصى حدّ في فصل الصيف وتنخفض كثيراً في فصل الشتاء. تشهد المنطقة عمليات تهريب بشر متواصلة على الحدود السودانية - الليبية، بينما ينشط فيها باحثون تقليديون عن الذهب وسط الجبال، فيما تضم المنطقة أشهر الطرقات التاريخية المعروفة بـ"درب الأربعين"، الذي تصدّر الإبل من خلاله إلى مصر منذ مئات السنين.

يعمل أحمد وزميله معتز في شركة "ستراك " وهي من روافد مجموعة "دال" والأخيرة من أكبر المجموعات في السودان وتعمل في كلّ المجالات الاستثمارية، بما فيها الإنتاج الزراعي والحيواني والصناعي واستيراد السيارات وغيرها، ويقيم أحمد رفقة موظفي الشركة في مدينة دنقلا (500 كيلومتر، شمال الخرطوم). يتوجب عليهما بين الفينة والأخرى متابعة مشاريع الشركة الخلوية خصوصاً في منطقة القعب التي تبعد 194 كيلومتراً عن المدينة.

يقول أحمد الذي يعمل سائقاً في الشركة لـ"العربي الجديد" إنّه يوم الأربعاء 6 ديسمبر/ كانون الأول الجاري توجه عند الصباح من دنقلا إلى القعب، ومعه زميله الميكانيكي معتز التيجاني، بغرض صيانة تراكتورات تخدم المشروع. وبالفعل وصلا الى هناك وأنجزا المهمة، وعند الساعة الثانية من بعد الظهر بالتوقيت المحلي قفلا راجعين إلى المدينة. وبعد مسيرة نحو 140 كيلومتراً، اكتشف أحمد وصاحبه مأساة توهانهما والفشل في تحديد الاتجاه المؤدي إلى المدينة، إذ كانا في مكان ليس فيه إنسان أو حيوان أو طير أو شجر. تذكر أحمد في هذه اللحظة والدته وزوجته وأبناءه الثلاثة، لكن سرعان ما تعايش مع الواقع وقويت عزيمته وثقته بالله.

سار أحمد ومعتز مرة أخرى، ليكتشفا جبلاً قريباً منهما فائتويا إليه كملجأ ومعلم بارز لفرق الإنقاذ إن جاءت. يعلق أحمد: "توقعنا في البدء أن نجد في الجبل مجموعات بشرية عُرفت بتجوالها بين الجبال بحثاً عن الذهب" لكن لم يجدا أحداً.

لم يكن مع أحمد، ورفيقه، سوى لترين من المياه وقليل من الخبز، ناما تلك الليلة في الجبل متوسدين مفرش السيارة، ولم يجد الخوف طريقه إليهما إذ تسامرا حتى صباح الخميس وأديا الصلوات كما العادة.

مضى الخميس أيضاً، ونفد الماء والخبز الجاف، وجاء الجمعة، وفيه قررا النزول من الجبل بحثاً عن أيّ شيء. وبالفعل عثرا على عربة عسكرية محترقة بمدفعها الرشاش على بعد 10 كيلومترات من الجبل. بعثرا محتوياتها فعثرا على ملابس عسكرية ثم دقيقٍ و"ويكة" وهي مسحوق "البامية المجففة" من أكثر الوجبات الشعبية انتشاراً في السودان. لكن، لا عود ثقاب معهما لإعداد الوجبة. فعادا إلى الجبل مجدداً، وتناولا بعض الدقيق و"الويكة" مع بعض الماء والملح من دون وضعها على النار. لكن، من أين الماء؟ يقول أحمد: "بعد نفاد قارورتي المياه، لجأنا إلى مبرّد السيارة، واستخرجنا ما فيه فشربنا، وبعد نفاده لجأنا إلى خزان المنشات (ماسحات الزجاج) ولولا هذا لقتلنا العطش".

لم تكن أيام السبت والأحد والإثنين أفضل مما سبقها، فلا جديد. يؤكد أحمد أنّ الثقة في الله ظلت تزداد باستمرار، ويقسم أنّه لم يشعر مطلقاً هو أو صاحبه بدنوّ ساعة الهلاك. كذلك، كانا واثقين من أنّ الشركة التي يعمل فيها أحمد منذ 22 عاماً ستعمل على إنقاذهما، إذ تدخلت بقوة في مثل هذه الحالات سابقاً.

وفي اليوم السابع لتوهانهما، أي الثلاثاء، أكلا بعض الدقيق و"الويكة" صباحاً. وعند الساعة الحادية عشرة والنصف حامت حولهما حشرة جبلية وظلت تصدر طنيناً إلى حدّ إزعاجهما، فانتبها فجأة إلى تداخل الطنين مع صوت آخر. وعندها فقط بدأت تظهر أربع سيارات رباعية الدفع في طريقها إلى الجبل، وكانت سيارات الشركة.

وصلت السيارات، ونزل من فيها، والدموع كانت أبلغ من الكلام. خلال بعض الوقت هبطت طائرة مروحية، أقلت أحمد وصاحبه وعادت بهما إلى دنقلا، في تلك اللحظة فقط أُخطرت أسرتاهما اللتان لم تكونا تعلمان شيئاً عن الموضوع، بما حدث.

ما لم يكن أحمد ومعتز يعلمان به هو أنّ شركة "دال" التي يعملان فيها سخرت طائرتين للبحث عنهما طوال الأيام السبعة التي اختفيا فيها، الأولى طائرة خاصة برئيس مجلس إدارة الشركة رجل الأعمال أسامة داؤود، والثانية طائرة مروحية عسكرية لتكون جاهزة عند استدعائها للهبوط وإجلائهما. يقول عوض الله رحمة، ابن خالة أحمد الذي يعمل في الشركة نفسها، إنّ الطائرتين تحركتا في مهمة البحث منذ اليوم الرابع. فكانت كلّ واحدة تطير لمدة 4 ساعات ثم تعود إلى مطار دنقلا للتزود بالوقود فتبدأ رحلة بحث جديدة في كلّ الاتجاهات. كانتا تتبعان إحداثيات سيارة أحمد ورفيقه لكن من دون جدوى. واستعانت فرق البحث بضباط في القوات المسلحة وخبير في الصحراء (قصاص) وضعوا جميعاً استراتيجية البحث وحدثوها كلّ ساعة بحسب المعطيات. حدث ذلك لمدة يومين، وفي اليوم الثالث قررت الفرق استخدام 4 سيارات رباعية الدفع. يؤكد رحمة أنّ اليأس بدأ يدب في نفوس أفراد البحث إلى حدّ اضطرارهم للمبيت في الصحراء يوم الإثنين، وفيه وصلوا إلى ثلاثة مواقع توقعوا لجوء أحمد ورفيقه إليها، لكنّ النتيجة كانت مخيبة، حتى أطل فجر الثلاثاء وفيه توجهوا الى الموقع الرابع وهو الجبل الذي لجأ إليه المفقودان. عند الحادية عشر والنصف بدت لهم من بعيد السيارة التي يقودها أحمد، ولم يكن هناك، بحسب رحمة، أمل في العثور عليهما على قيد الحياة، لأنّ 7 أيام مضت وهما من غير زاد.

يضيف رحمة: "اقتربنا من الجبل رويداً رويداً فبان لنا أحمد وصاحبه ووصلنا إليهما، وانهارت الدموع طويلاً. استدعينا المروحية التي هبطت وعدنا بهما سالمين. وفي دنقلا بدأ نحر الذبائح وانطقلت الزغاريد وعمت الفرحة كلّ العاملين في الشركة. عدنا إلى الخرطوم فأجريت فحوص طبية شاملة لأحمد ورفيقه أكدت سلامتهما تماماً".

قصص سابقة
تحفظ الذاكرة السودانية كثيراً من قصص التوهان في الصحراء لكنّ أكثرها إثارة، قصة مسؤول محلي بالولاية الشمالية كان عام 1986 في طريقه من دنقلا إلى الخرطوم ومعه زوجته وبناته ومبلغ مالي كبير يخص الحكومة المحلية، بيد أنّه لم يصل وفشلت المحاولات في العثور عليه حياً أو ميتاً، بينما انطلقت شائعات عن هروبه بالمبلغ المالي إلى دولة مجاورة. وبعدما نسي الناس القصة وتفاصيلها، عثر راعٍ عام 1996 على أربع جثث وعربة مغطاة بالرمال تماماً وفيها نقود، وكانت المفاجأة أنّه المسؤول المحلي وعائلته أنفسهم.

قصة أخرى مليئة بالأسى كتب فيها مفقود قبل موته رسالة وتركها إلى جانبه، وعثر على جثته لاحقاً. جاء فيها: "أشعر بأنفاس الموت تلفح جسدي... أيقنت أنّي لن أرى أولادي أو أهلي بعد اليوم، وقررت كتابة وصيتي وديوني، وأين أدفن إذا عثر أحدهم على رفاتنا يوماً".

منذ تشييد طريق بري معبّد بالأسفلت يربط الخرطوم بدنقلا وحلفا في أقصى الشمال قلّت حوادث التوهان كثيراً. لكنّ الأهالي ما زالوا يأملون في وضع علامات أو إشارات إرشادية في عمق الصحراء ومدّ شبكة اتصالات حتى يستنجد بها المسافرون التائهون.
دلالات