في ذكراك شكري بلعيد

في ذكراك شكري بلعيد

08 فبراير 2015
+ الخط -

في ذكرى اغتيال شكري بلعيد الذي يظلّ لغز قتله يثير سلسلة من الشبهات، حتى ولو اعترفت ألف من الجماعات المتطرفة باغتياله. فلا التوقيت، ولا الوضع السياسي آنذاك، ولا الأهداف كانت في تمام الجلاء. وظلت سلسلة من الأسرار تحيط بالعملية، وفي تناولها سياسياً وإعلامياً، وكأن المراد تعويم الجريمة، وطمس الحقيقة.
اغتيال شكري بلعيد واحد من اغتيالات عدّة شهدتها تونس. وهي اغتيالات سياسية بامتياز، وارتبطت بمراحل مهمّة في تاريخ الدولة، وخصوصاً في مرحلتي تكوين الجمهورية، الأولى والثانية.
كانت الأولى تقريباً من سنة 1952 إلى سنة 1961، وهي بداية تكوين الجمهورية الأولى، من أواخر الاستعمار إلى السنوات الأولى للاستقلال. كانت تلك الفترة مثقلة بالاغتيالات لشخصيات ثقيلة، معادية للمستعمر الفرنسي أو لزعيم الجمهورية الأولى، الحبيب بورقيبة. في 1952 اغتيل الزعيم فرحات حشاد، في 1953 اغتيل الهادي شاكر، في 1954 اغتيل عبد الرحمن مامي، وفي 1956 اغتيل الحسين بوزيان، وفي 1961، جرى اغتيال الزعيم صالح بن يوسف.
كانت المرحلة الثانية ما بعد أحداث الربيع العربي، 2010/2011، وحين بداية تكوين الجمهورية الثانية. إذ جرى اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي في 2013، وجملة من الأمنيين والعسكريين.
في المرحلتين، كان هناك صراع حضاري، وتوجه إلى حمل هويّة الدولة بعيداً عن أصلها العربي الإسلامي. فبورقيبة كان غربي الهوى، نال شهاداته وتكوينه السياسي في فرنسا، وعمل على تكوين دولة على الطراز الغربي، فدعا إلى تكوين الأمّة التونسية، ليخرج عن أمّته العربية، وحاول محاربة الدين وعزله، مثل جهره بالدعوة إلى إفطار رمضان، إلاّ أن الخط الدفاعي الأولّ للحفاظ على هوية الأمّة تصدّى له. وفي هذه المرحلة الدقيقة، حصلت كل الاغتيالات المذكورة، وفي صلب خطّ الدفاع، بأيادٍ فرنسية أو تابعة لبورقيبة.
وأمّا ضمن أحداث الربيع العربي، وما تلاها من تدافع على ملء فراغ السلطة، فقد عاد إلى مشهد الصراع على هويّة الدولة مرّة أخرى. فدخل الخط المناقض للعروبة والإسلام، بكل ثقله، من خلال بعض الأحزاب والجمعيات والمؤسسات الإعلامية، لإحداث الصدمة في عقول التونسيين، الصدمة حول هويتهم الحقيقية، واخترعت ألف معركة من أجل ذلك. فعرضت أفلام تنتهك القداسة والتطاول على خالق الكون، وعرضت صور مسيئة للرسول الكريم، وحرقت مساجد وجوامع، وجرى استفزاز التيارات الدينية، ولم يتأخر ردّها، تكفّل بعضهم بصناعتها، وتوريد شاحنات من اللحى الاصطناعية، حتى أن الدستور كاد أن يسقط فصله الأول، الإسلام دين الدولة.
وفي ظل هذا الوضع، لم يكن شكري بلعيد، لا مع هذا ولا مع ذاك، فهو ينحاز للدولة الوطنية، ويعادي صراحة التيارين، الإسلامي والرأسمالي المتوحش. وهو ما أعاد طرح السؤال، لماذا قتل شكري؟ هل من أجل إسقاط حكم الإسلاميين؟ وهو ما حصل كنتيجة، أو من أجل تغليب مشروع كامل، يناقض مشروع شكري الوطني ومشروع الإسلاميين؟
كانت حكومة الحبيب الصيد الجواب على موت شكري بلعيد. الحكومة لم تكن ذات مشروع، كانت أعمدتها النظام القديم بكل تفاصيله، برأسماله الفاسد، بمزوريه، بعلاقاته المفتوحة على الكيان الصهيوني، وقد ضمّت، على الأقل، شخصيتين متهمتين بالعلاقات مع كيان العدو. كما ضمّت رفاقاً لشكري بلعيد، رفاقاً يبدو أنهم قرأوا جيّداً الخارطة الجيوسياسة، وفهموا مآلات ما يحدث، فركبوا نعش شكري، من أجل كرسي.
وهكذا، كان شكري والبراهمي والجنود القرابين لبناء الجمهورية الثانية، ولكن، بنكهة خارجية، يُقصى فيها الصادقون من اليسار، والصادقون من الإسلاميين. وأما مَن ركب مركب "الصيد"، فهم الذين رفضوا تجريم التطبيع، بل وفتحوا الباب لمَن اختطف الوطن.
رحم الله شكري وكل الشهداء.

محجوب قاهري
محجوب قاهري
محجوب أحمد قاهري
طبيب وناشط في المجتمع المدني، يكتب المقالات في عدد من المواقع في محاولة لصناعة محتوى جاد ورصين.
محجوب أحمد قاهري