في أحوال السودان

28 نوفمبر 2016
+ الخط -
ما شهده السودان من تدهور اقتصادي، في الأعوام الناضية التي أعقبت انفصال الجنوب أثر بشدّة على شعبية حكومة الرئيس عمر البشير التي كانت تحتفظ بقدر من التعاطف والتأييد كان واضحاً للرأي العام إبّان أزمة محكمة الجنايات الدولية التي أصدرت مذكرة اعتقال بحق البشير عام 2009. في تلك الفترة العصيبة من عمر النظام، كانت قطاعات عديدة من جموع الشعب السوداني ترفض فكرة مثول الرئيس عمر البشير إلى محكمة الجنايات الدولية التي تتهمه بارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور، غربي البلاد.
غير أنّ الفقدان المفاجئ لعائدات نفط الجنوب عقب الانفصال بدأت تظهر آثاره تدريجياً، حيث لجأت الحكومة إلى إجراءات اقتصادية رفعت بموجبها الدعم عن المحروقات، بعد حوالي عامين من انفصال الجنوب، ما أدى إلى اندلاع تظاهرات واحتجاجات شعبية قابلتها السلطات الأمنية بالعنف، وراح ضحيتها نحو 200 متظاهر "بحسب إحصائيات منظمة العفو الدولية".
يرى مراقبون للشأن السوداني، أنّ سياسات الحكومة أدّت إلى تدمير اقتصاد الدولة من ضمنه المشروعات الزراعية الكبرى مثل مشروع الجزيرة الذي يقع في وسط السودان بين النيلين الأزرق والأبيض في السهل الطيني الممتد من منطقة سنار إلى جنوب العاصمة الخرطوم.
يعد هذا المشروع لوحده أكبر مشروع مروي في إفريقيا، حيث تبلغ مساحته نحو 2.2 مليون فدان. كما يرى المتابعون أنّ السياسة الخارجية التي انتهجها النظام أدّت إلى انعزال السودان دولياً وإقليمياً، بعد أن ضمّت الولايات المتحدة الأميركية حكومة البشير إلى قائمة الدول الراعية للإرهاب، وفرضت عليه عقوبات اقتصادية شاملة من العام 1993.
منذ ذلك الوقت، والنظام السوداني يحاول التأقلم والتكيُف مع الحصار الاقتصادي والضغوط الدولية، لكنّه، على ما يبدو، فقد كلّ ما في جُعبته من مناورات والتفاف على الحقائق، فقد أدى التدهور الاقتصادي أخيراً إلى صدور قرارات بزيادة أسعار الوقود تحت مُسمّى (رفع الدعم)، وإلى تخفيض في سعر العملة الوطنية أمام الدولار، أطلق عليه وزير المالية اسم "سياسة الحافز". هذه الإجراءات الاقتصادية تسبّبت في زيادة أسعار الدواء بنسبة تتراوح بين 150% و300%، فضلاً عن رفع تذاكر الطيران بذات النسبة.
فجّرت الزيادات الأخيرة غضباً شعبياً، لجأ معه نشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي إلى قيادة حملة تطالب بإعادة سعر الدواء، كما كان سابقاً، فيما دعا بعضهم إلى عصيان مدني شامل، حتى تتحقّق مطالبهم بالتراجع عن الإجراءات الاقتصادية القاسية. لقيت تلك الحملات تضامناً من مواطنين خليجيين عبّروا عن مناصرتهم وتعاطفهم مع الشعب السوداني.
لكن مصادر اقتصادية عليمة تؤكد أنّ الحكومة السودانية لم يكن في وسعها إلا اتخاذ هذه القرارات الكارثية، بسبب عدم وجود موارد لمنع الموازنة من الانهيار الذي قد تعجز معه الدولة عن الوفاء بالتزاماتها. لذلك اختارت الحكومة خيار المواجهة مع الجماهير بدلاً عن فضيحة الانهيار الشامل.
أيّاً كان الأمر، فإنّه لا توجد بارقة أمل تلوح في الأفق، على الرغم من محاولة النظام امتصاص الغضب الشعبي في مؤتمر صحفي عقده يوم الجمعة وزير الصحة، بحر إدريس، قرّر فيه إعادة النظر في أسعار الأدوية، خصوصاً التي يستخدمها أصحاب الأمراض المزمنة، وكشف الوزير عن إعفاء مسؤول في وزارته، معتبراً أنّه وراء التجاوزات الأخيرة في أسعار الدواء. ولم يشر وزير الصحة إلى إعادة سعر الدولار الذي كان يتم به استيراد الدواء سابقاً، وهو (6.5 جنيه) مقابل (15.9 جنيه) حالياً بعد الإجراءات الاقتصادية.
لا نتوّقع انجلاء الأزمة بسهولة، إذ إنّ مناطق في العاصمة الخرطوم والولايات شهدت احتجاجات متفرّقة قد تتسع رقعتها مع تنامي السخط الشعبي من الأوضاع الاقتصادية المتردّية، ومع دعوات الاعتصام والعصيان المدني الذي يروّجه نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، وسط أنباء وتسريبات عن تذمر في أوساط القوات المسلحة والأجهزة الأمنية ممّا يجري من أحداث.
اللافت أنّ يوسف الكودة، وهو أكاديمي وداعية إسلامي، يترأس حزب الوسط، دعا صراحة في بيان إلى تسليم السلطة للشعب مقابل الخروج الآمن لقيادات النظام، وناشد منسوبي الأجهزة الأمنية بعدم استخدام العنف مع المحتجين. تشير رسالة الكودة إلى عُمق الأزمة، وتؤكد أنّ النظام قد دخل في طريق مسدود، يصعب عليه الخروج منه، وباتت أنصاف الحلول والمسكّنات لا تجدي نفعاً.
71F29908-DD1C-4C71-A77C-041E103F4213
71F29908-DD1C-4C71-A77C-041E103F4213
محمد مصطفى جامع
كاتب سوداني.
محمد مصطفى جامع