فلسطين في مواقع التواصل: معركة الاستخدام

فلسطين في مواقع التواصل: معركة الاستخدام

28 فبراير 2016
"حلم وورد وذاكرة"، رنا بشارة / فلسطين
+ الخط -

شكّلت مواقع التواصل الإجتماعي منذ بدأت تصلنا قبل قرابة عقد من الزمن، حالة خاصّة في استعمالاتها بين الفلسطينيين، في الوطن المحتل وفي الللجوء، إذ وفّرت لهم فرصة فريدة في التواصل وتعرّف أبناء الشعب الواحد المُشتت في بلدان العالم ببعضهم البعض، وبات الجيل الثالث والرابع بعد النكبة أكثر قدرة على التواصل و"التشبيك" من الجيلين السابقين بفضل هذه الوسائل.

ولم يعد بالإمكان تجاهل وسائل التواصل الاجتماعي في السياق الفلسطيني كجزء من مقاومة الاحتلال (أو ممكناته الواسعة والمرنة في هذا المضمار على الأقل) وفضح السياسات الاستعمارية الإسرائيلية، فالعقد الأخير شهد تحولات لم تُقرأ فلسطينيًا بعد كما يجب، كان أحد الإعلام الاجتماعي أحد عناوينها الرئيسية، وهو في المحصلة تقنية تلعب لصالح من يُتقن استخدامها ويُنتج حولها معرفة ويوظفها لصالح قضاياه أو مصالحه أو مشروعه الوطني.

فمنذ ظهورها، بدأت تتشكل فلسطينيًا ظواهر وحالات جديدة تُسهم في عملية تشكيل الوعي الوطني والفهم الذاتي والجماعي للهُويّة الفلسطينيّة، خصوصًا أن بداية ظهور واستعمال هذه الوسائل تزامن فلسطينيًا مع مرحلة انكفاء "منظمة التحرير الفلسطينية" التي شكّلت تاريخيًا وعاءً جامعاً للشعب الفلسطيني وإطاراً يُحافظ على تماسك الهُويّة الفلسطينيّة تطلعات الشعب الفلسطيني بالتحرر (بغض النظر عن كفاءة ونجاعة هذا الإطار).

ولعل "الصفحات" و"المجموعات" و"المنتديات" الفلسطينية الكثيرة التي انتشرت بغزارة في بداية الظاهرة وما زالت حتى يوم؛ تعكس الرغبة والحاجة الفلسطينية لأدوات تجمع تشتته القسري بسبب ظروف الاحتلال، فبتنا نرى مجموعات تضم أهالي القرى المهجرة وتحمل أسماء مثل "أهالي لوبية في الوطن والشتات" أو "أبناء طيرة حيفا" وصفحة تجمع العائلات الفلسطينية وأخرى لـ"الجاليات" الفلسطينية والصفحات الإخبارية. هذا، إلى العديد من الأفكار التي تدور في فلك "لم شمل" افتراضي للشعب الفلسطيني ضمن هذا الوسيط التقني الذي وفّر فضاءً مفتوحًا سريعًا وسهلًا للتواصل بعد عقود لم يقيض لها هذا الشكل من إمكانية التواصل المباشر والمكشوف بهذا الزخم.

طبيعة عمل مواقع التواصل والتطوّر التكنولوجي، أتاح لابن مخيم عين الحلوة في التواصل مع ابن يافا الباقي فيها وابنها الآخر المولود في أمريكا أو أوروبا لأسرة لاجئة، وكأن فعل النكبة المُشتِّت يتوقف من خلال هذا التفاعل الذي أعاد تشكيل الجغرافيا من جديد بتجاوزه للحدود الجغرافية التقليدية، وأتاح استمرارية تصوّر الفلسطيني لنفسه ضمن جماعة متخيلة من خلال أدوات عصرية رغم الظروف السياسية في العقد الأخير التي هي عكس كل ذلك: الانقسام الفلسطيني، "وفاة" منظمة التحرير، التنسيق الأمني مع الاحتلال، تهميش قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني وغياب المشروع الوطني الجامع.

ما يميّز التجربة الفلسطينية ووسائل التواصل الاجتماعي (رغم سلبيات عديدة ومنزلقات ليس هذا مجال الخوض فيها)، أنها لم تنحصر داخل العالم الافتراضي هذا، بل خرجت منه بعد أن بنت داخل هذا العالم تصور وتماسك وبيئة، فأصبحت هذه المواقع أداة لفعل سياسي مشترك لاحقًا شهدنا بدايتها في عام 2011 مع "الربيع العربي" من خلال الحراكات الشبابية المتشكّلة حديثًا، لتتبعها في السنوات اللاحقة مبادرات فلسطينية وشبابية عديدة لعبت فيها مواقع التواصل دورًا بارزًا وأساسي في التحشيد والتعبئة والترويج، مثل الحراك الشبابي ضد "مخطط برافر" الذي تمكن من تحويل قضية تخص أهالي النقب إلى قضية فلسطينية عامة وعالمية من خلال سيرورة هذا التصور المشترك والتماسك في بيئة داخل مواقع التواصل.

هذه التجارب الواسعة والمتعددة والمتفاوتة في حجم وشكل التفاعل والتي لم تدرس بعد، تعكس نجاح الفلسطينيين في تسخير هذه الأدوات في مقاومة السياسات الاستعمارية الإسرائيلية إن كانت في تشتيت الفلسطيني والحد من حرية حركته بالمعنى الشامل للكلمة، أو من خلال فضح ممارسات الاحتلال عالميًا؛ دفعت بالإسرائيليين التفكير بشكل جدي لمواجهة الفلسطيني الجديد في شبكات التواصل.

فهذا القلق الإسرائيلي من شكل المقاومة الفلسطينية المختلف عُبّر عنه في عدة مؤتمرات أمنية إسرائيلية وبتصريحات من قيادات ومسؤولين، دفعهم إلى القيام بخطوات مقابلة خصوصًا عندما بدأت هذه الوسائل تؤثر في صورة إسرائيل في الغرب بعد حراك حملة المقاطعة الذي بدأ يجني انجازاته، فبتنا نشهد تجنيد شباب إسرائيليين في العمل ضمن حملات مضادة او ما يُعرف بالـ "هاسبراه". فمن درس في الجامعات الإسرائيلية لاحظ بكل تأكيد في السنوات الأخيرة تزايداً في دورات وورش الهاسبراه التي تنظمها نقابات الطلاب خصوصًا خلال حروب العدوان على غزّة، حيث كنا نرى وحدات خاصة من الطلاب الإسرائيليين مهمتهما فقط الجلوس على الحاسوب وتبييض وجه الاحتلال في العالم من خلال وسائل التواصل ونشر الرواية الإسرائيلية فيها، إضافة إلى وجود وحدات خاصة في جيش الاحتلال لهذا الشأن.

لكن العقل الأمني الإسرائيلي لم يكتف بتبييض وجه الاحتلال وإنشاء صفحاته وحساباته وشخصياته لتطبيع إسرائيل عبر وسائل التواصل (أفخاي أدرعي كمثال بسيط) من خلال خطط عمل واستحداث أقسام جديدة لهذا الخصوص في عدد من المؤسسات الإسرائيلية، بل اغتنم فرصة طبيعة وسائل التواصل المكشوفة والكاشفة لحياة كل شخص متفاعل في هذه الوسائل بهدف الرقابة والملاحقة والاعتقال والتجسس، فبات هذا الفضاء الفلسطيني المفتوح والمكشوف فرصة للاحتلال في اختراق المجتمع الفلسطيني وضرب المقاومة من خلال المعلومات التي نوفرها له في تفاعلاتنا الحياتية.

ونحن إن كنّا تفوقنا على الاحتلال في وسائل التواصل الاجتماعي على صعيد "كسر الحدود" والنجاح في التواصل وفضح إسرائيل وممارساتها حول العالم وكسب معركة الرأي العام الشعبي؛ فما زال الاحتلال يتفوّق علينا في معركة الرصد والمراقبة واختراق المجتمعات الفلسطينية وجمع المعلومات التي تؤدي إلى اعتقال المناضلين ومعرفة طبيعة تحركات المقاومة.

وهذا ناتج عن إدراك الاحتلال لخطورة هذه الوسائل وضرورة تحويل العمل فيها بشكل منظم ووضع خطط وبرامج وتجنيد موارد وخبراء ومتطوعين في هذه المعركة، وهذه العملية بلا شك حصلت بعد إنتاج معرفي إسرائيلي في هذا الشأن وبعد اجراء الدراسات والأبحاث، في حين أن البحوث الفلسطينية والعربية في هذا المجال فقيرة جدًا، إن لم تكن معدومة، فهناك دراسات وبحوث بحثت قضية التواصل والتفاعل للفلسطيني على شبكات التواصل، لكن لا نجد حتى الآن من يفحص كيف تتجسس إسرائيل علينا من خلال شبكات التواصل؟ أو كم هو عدد الذين اعتقلوا بسبب تفاعلهم عبر شبكات التواصل؟ وما هي طبيعة هذه الحالات الخ.. أو حتى دراسات ترصد طبيعة ما يقوم به الإسرائيليون في وسائل التواصل.

لم تعد مسألة أهمية وسائل التواصل والمواقع والشبكات الاجتماعية في السياق الفلسطيني هي النقاش، هذا الأمر بات محسومًا ومفهومًا ضمنًا؛ السؤال المطروح اليوم هو كيف بإمكان أبناء الشعب اللفلسطيني، خصوصًا الشباب والناشطين الفاعلين على الساحة، الانتقال بخطوة جديدة إلى الأمام في استعمالات وسائل التواصل وتنظيم المبادرات ذات الفعل السياسي بشكل متقدم أكثر؟

كيف يمكننا مواجهة التفوّق المعرفي الإسرائيلي المُسخّر لاختراق المجتمع الفلسطيني؟ وكيف نبني وعيًا في كيفية استخدام هذه الوسائل؟

أسئلة عديدة تُطرح في سياق وضع وسائل التواصل كأداة مقاومة، ولا شك أن انتاجًا معرفيًا فلسطينيًا وعربيًا في هذا المجال يُقيّم الوضع الحالي ويشخّصه ويفكر بأساليب واستراتيجيات جديدة، سيساهم في الاجابة على هذه الأسئلة ويطرح نهجًا متقدمًا عن الأداء الحالي.


(باحث فلسطيني/ حيفا)


اقرأ أيضاً: الحصار مقلوباً.. الخوف من الفلسطيني المسالم

المساهمون