فرنسا تسترضي المغرب بتعديل معاهدة التعاون القضائي

فرنسا تسترضي المغرب بتعديل معاهدة التعاون القضائي

17 يونيو 2015
زيارة بنكيران باريس مهّدت لإعادة العلاقات (فرانس برس)
+ الخط -

يعمل البرلمانيون الفرنسيون، في أجواء من التكتم وبعيداً عن الضوضاء الإعلامية، على دراسة ملحق إضافي لمعاهدة التعاون القضائي بين فرنسا والمغرب، وهو الملحق الذي وقّع عليه المغرب سلفاً وينتظر المصادقة عليه من البرلمان الفرنسي ليصبح ساري المفعول بشكل فوري. وسيوفّر هذا الملحق حصانة للمسؤولين المغاربة، ويحميهم من الملاحقة القضائية في الأراضي الفرنسية، كما يُلزم القضاء الفرنسي بإعلام القضاء المغربي بأي دعوى قضائية تمس مواطنيه، وهو الثمن الذي طلبه المغرب مقابل استئناف التعاون القضائي والأمني بين البلدين الذي تم تعليقه بشكل مفاجئ من المغرب بعد أن استدعى القضاء الفرنسي مدير الاستخبارات المغربية، عبداللطيف حموشي، للتحقيق معه بشأن دعوى قضائية بتهمة التعذيب، الأمر الذي أثار غضب الدوائر العليا المغربية وامتعاض الملك المغربي، محمد السادس، ونتج عنه تجميد كامل للعلاقات المغربية الفرنسية دام حوالي العام.

ومنذ ذلك الحين بذل الفرنسيون جهوداً كبيراً لإعادة العلاقات مع السلطات المغربية، وهو ما حصل منذ بضعة شهور بعد زيارات متكررة قام بها رئيس الوزراء الفرنسي، مانويل فالس، ووزيرا الداخلية، برنار كازنوف، والخارجية، لوران فابيوس، إلى الرباط، إلى أن تم تحقيق مصالحة شاملة بين الطرفين كان ثمنها الأساسي، هو تعديل معاهدة الاتفاق القضائي بين البلدين بشكل يُبعد شبح المساءلة والملاحقة عن المسؤولين المغاربة أثناء عبورهم أو زيارتهم فرنسا.

صدف تعيسة

حادث استدعاء الحموشي كان من المحتمل أن يبقى ضمن دائرة غضب مغربي مؤقت بالنظر إلى متانة العلاقات المغربية الفرنسية، إلا أن حوادث أخرى أدت إلى ردة الفعل الغاضبة من المغرب. ففي 18 فبراير/شباط 2014، صرح الممثل الإسباني، خافيير باردم، أثناء عرض فيلم وثائقي في باريس عن الأوضاع في الصحراء الغربية المتنازع عليها بين المغرب وجبهة بوليساريو، بأن السفير الفرنسي في واشنطن، جيرار آرو، أسرّ له خلال لقاء عام 2011 بأن "المغرب عشيقة ننام معها كل ليلة وعلى الرغم من أننا لا نحبها فعلينا أن ندافع عنها". وعلى الرغم من نفي السفير الفرنسي هذا الكلام في بيان رسمي، إلا أنه أثار غضباً شديداً على المستويين الرسمي والشعبي في المغرب.

وعلى الرغم من المحاولات الفرنسية الحثيثة لإعادة الأمور إلى نصابها، فقد استمرت السلطات المغربية في سياسة تجميد كل أنواع التعاون بين البلدين، وتأجج الغضب المغربي بعد حادثة أخرى اعتبرتها السلطات المغربية استفزازاً جارحاً للكبرياء الوطني، عندما تعرّض وزير الخارجية المغربي، صلاح الدين مزوار، في 26 مارس/آذار 2014 أثناء عبوره عبر مطار رواسي شارل دغول إلى عملية "تفتيش معمّقة" من شرطة الحدود اعتبرها مهينة في حقه بالنظر إلى جواز سفره الدبلوماسي. ومرة أخرى قدّم وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، اعتذاراً رسمياً للمغرب عن هذا الحادث "المؤسف" واعتبره "خطأ دبلوماسياً غير متعمد".

كما أن التظاهرة التي نظّمها معارضون مغاربة قرب قصر بيتز الذي يملكه الملك المغربي في منطقة لواز، زادت من توتّر العلاقات على الرغم من قيام عمدة بلدة بيتز بكل التدابير اللازمة لإبعاد المحتجين خارج محيط القصر والبلدة. كل هذه الحوادث مجتمعة أججت غضب الدوائر العليا في الرباط على فرنسا، وذهبت بعض وسائل الإعلام المغربية المقربة من الحكومة إلى اعتبار التحركات الفرنسية جزءاً من حملة يشنها اللوبي الجزائري المعادي للمغرب و"مؤامرة" لتلطيخ سمعة المغرب وإهانته.

اقرأ أيضاً: محمد السادس وهولاند ينهيان القطيعة المغربيّة ــ الفرنسية

فرنسا تتحرك طلباً لرضا المغرب

وأمام التفاعل السلبي لكل هذه الحوادث وتعكيرها للعلاقة بين فرنسا والمغرب، استشعر الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، الخطر الذي يهدد العلاقات مع حليفه التقليدي، وبعد عدة مكالمات هاتفية مع الملك محمد السادس، أرسل هولاند النائبة الاشتراكية ووزيرة العدل السابقة اليزابيت غيغو المعروفة بعلاقتها الجيدة مع السلطات المغربية كونها ولدت في مراكش، إلى الرباط للقاء الملك المغربي والتوسّط من أجل عودة الصفاء بين البلدين. ومباشرة بعد غيغو زار فالس السفارة المغربية للمشاركة في مراسم الاحتفال بعيد العرش المغربي، برفقة وزيرة العدل الفرنسية، كريستيان توبيرا، في مبادرة لافتة لتحضير المصالحة بين البلدين.

وعلى الرغم من كل هذه المحاولات، ظل البرود سيد الموقف المغربي، وقام الملك محمد السادس بإلغاء زيارة إلى باريس، كان من المقرر أن يدشن فيها انطلاق فعاليات "المغرب المعاصر" في معهد العالم العربي، وأرسل مكانه الأميرة لالة مريم التي دل حضورها على أن الغضب المغربي تجاه فرنسا بدأ يخف. واستمرت المفاوضات بين باريس والرباط شهوراً طويلة قبل أن تعلن توبيرا من باريس في 31 يناير/كانون الثاني الماضي استئناف التعاون القضائي والأمني بين فرنسا والمغرب والتحضير لتعديل الاتفاق القضائي لتعزيزه مستقبلاً. وفي فبراير/شباط الماضي، أعلن وزير الداخلية الفرنسي، برنار كازنوف، أن بلاده ستمنح عبداللطيف الحموشي وسام الشرف الجمهوري، وهو الأمر الذي اعتبره العديد من المراقبين رضوخاً للمطالب المغربية مقابل المصالحة. هكذا تم تحقيق المصالحة التي تُوّجت، أخيراً، بزيارة فالس إلى الرباط في أبريل/نيسان الماضي، ونظيره المغربي عبدالإله بنكيران إلى باريس الشهر الماضي لتطوى صفحة الخلاف بين البلدين.

احتجاج الجمعيات الحقوقية

ويجمع العديد من المراقبين على أن البرلمانيين الفرنسيين سيصادقون بلا تردد على تعديل المعاهدة القضائية لأن هذا المطلب المغربي هو ثمن المصالحة السياسية بين باريس والرباط، وأيضاً، لأن هناك إجماعاً بين النواب الاشتراكيين ونواب المعارضة اليمينية على ترضية المغرب باعتباره حليفاً ضرورياً لفرنسا على كل المستويات، خصوصاً فيما يتعلق بالجانب الأمني ومكافحة الإرهاب. وتكمن الإضافة الأساسية لهذا التعديل في التزام القضاء الفرنسي بمراسلة القضاء المغربي وإعطائه جميع المعلومات، كلما تعلّق الأمر بدعوى قضائية ضد مواطن مغربي، ويشمل هذا الإجراء المواطنين المغاربة الحاصلين على الجنسية الفرنسية، ما يعني أن القضاء المغربي بإمكانه تقنياً أن يعطّل أي ملاحقة إذا لم يوافق على حيثياتها.

إلا أن الجمعيات الحقوقية الفرنسية احتجت بقوة على هذا التعديل الذي سيتيح للمغرب امتيازات قضائية كبرى تجعل مسؤوليه في مأمن من أي ملاحقة قضائية في فرنسا، وتُعرّض حياة ضحايا التعذيب للخطر.

وتقول المسؤولة القانونية لمنظمة العفو الدولية في باريس المحامية، جان سولزير، في تصريح لـ"العربي الجديد": "لقد تم استقبالنا في 11 مايو/أيار الماضي برفقة عشر جمعيات أخرى من اللجنة البرلمانية المكلفة مشروع قانون تعديل الاتفاق القضائي مع المغرب، وتحدثنا إلى رئيسة اللجنة، إليزابيت غيغو، وعبّرنا لها عن احتجاجنا على هذا التعديل الذي نعتبره خرقاً فاضحاً للدستور الفرنسي الذي يضمن ملاحقة أي متهم بالتعذيب داخل الأراضي الفرنسية، وأيضاً للمواثيق الدولية التي تلتزم بها فرنسا، خصوصاً فيما يخص ملاحقة ومقاضاة المسؤولين عن جرائم التعذيب".

وتعتبر سولزير، أن "الاتفاق الجديد هو ثمن سياسي باهظ للمصالحة الفرنسية مع المغرب، لأنه يتيح الإفلات من العقاب، مستقبلاً، للمسؤولين عن جرائم التعذيب ويفتح الباب بكل تأكيد لتعديل الاتفاقيات القضائية مع بلدان أخرى ستطالب هي الأخرى حتماً بالامتيازات نفسها".

اقرأ أيضاً: لقاء بنكيران هولاند يرسّخ المصالحة الدبلوماسية بين المغرب وفرنسا

المساهمون