فتوى "حمداش" في الجزائر

22 ديسمبر 2014
+ الخط -
استدعت الفتوى التي أصدرها القيادي السلفي الجزائري، عبد الفتاح حمداش، بإهدار دم الكاتب كمال داود، بسبب آرائه التي صرح بها في برنامج تلفزيوني فرنسي، أجواء مشحونة غابت بعض الوقت عن الساحة السياسية والفكرية الجزائرية، حيث شكل التصادم الأيديولوجي بين الآراء المختلفة في قضايا الهوية والانتماء، أهم محرك للجدل السياسي والفكري، منذ نهاية الثمانينات إلى بداية الألفية الجديدة، بالموازاة مع أخبار العنف الدموي الذي ميّز يوميات الجزائريين حينذاك. وبعد استقرار الأوضاع الأمنية والسياسية، وميلها نحو الغلبة في عهد بوتفليقة، انخفض مستوى التوتر، ولم تعد المناوشات القائمة على أساس فكري، تستهوي الجزائريين، مقارنة مع انشغالاتهم الاقتصادية والمعيشية، باستثناء ما يثار بين حين وآخر، عن مسألة الأمازيغية السياسية، والتي بدأت تتطور أخيراً، على شكل قاعدة فكرية مؤطرة لوضعيات احتقان اجتماعي محدود في مناطق، مثل غرداية، في الجنوب الجزائري.

التأثير الذي قد يترتب عن انعكاسات ما بعد هذه الفتوى، يتعلق بطريقة التعامل معها. فإذا جاءت في سياق الموقف من الحريات، فثمة فرصة ذهبية، لكي تتحد الفعاليات السياسية والمجتمعية الجادة، لدعم حرية التعبير، والمطالبة بتأصيلها وإبعادها عن مناورات السلطة الحاكمة ومخالب التطرف. ومن ثم، تعقبها الدعوة إلى إجراء حوار ديموقراطي بنّاء حول إشكاليات الهوية والمواطنة في الجزائر، بدلاً من أن تترك للتراكم، ثم الانفجار، كلما تأزم الوضع.

ولكنها في الوقت نفسه، قد توضع في سياق سلبي من شأنه أن يشجع المتعصبين على إثراء الجدال الساذج، الذي ينتهي، عادة، بتذكير الأوساط الشعبية بمشاهد الاغتيالات التي طالت مثقفين ومفكرين، راحوا ضحية استغلال المتشددين أجواء الاستفزازات العبثية التي سادت آنذاك. وتكون المحصلة الانسياق باتجاه العنف لتصفية الخلافات، أو الانخراط شعبوياً في مرامي السلطة، لخنق الحريات واقتلاعها من سلم الأولويات، بحجة الاستقرار والعيش الأدنى أو بالحلول السطحية التي تزج بالمشكات الاجتماعية في صراعات اقتسام الموارد والحكم. 

مع ذلك، تأتي فتوى حمداش في ظرف تميزه حتمية التحضير للانتقال باتجاه مرحلة ما بعد بوتفليقة. حيث تحتاج السلطة إلى إشراك أكبر عدد ممكن من الأطراف، لتحقيق العبور السلس، ولا شك أن الإسلاميين سيكونون معنيّين بهذا الأمر أيضاً.

وبما أن التيار ذا المرجعية الإخوانية "حركة مجتمع السلم"، الذي كان قد شارك، فترات طويلة، في الحكومة ضمن التحالف الرئاسي، قد أصبح معارضاً لبوتفليقة، ومنسجماً مع التحولات في المنطقة، فإن السلطة قد تفكر في البحث عن شريك في الفريق الآخر من الإسلاميين، أي أصحاب التوجه السلفي، لتوطيد فكرة الاستقرار والاستكانة لولي الأمر.

على المنوال نفسه، إن السماح لسلفيين، مثل حمداش، بممارسة أنشطة سياسية وفكرية والعواصف التي تخلقها، سينتج نوعاً من الانقسام والفرز في أوساط الإسلاميين، من المحتمل أن ينتهي بتمكين السلطة من اختيار شركائها بعناية ودقة، لدعم التحالف المدني والعسكري الذي سيقود المرحلة المقبلة، ومواجهة من يمكن أن يعيق الاستقرار والاستمرارية. ونعني هنا، "المعارضة" ومنها حركة "حمس"، ذات المرجعية الإخوانية والتنظيمات الأصولية المسلحة التي لازالت مؤمنة بجدوى العنف ضد الدولة.

تحدّث كثيرون في أثناء الحملة الرئاسية الأخيرة، عن إمكانية عودة رموز من جبهة الإنقاذ "الفيس" لمزاولة العمل السياسي، (وهو الحزب الفائز بالانتخابات التشريعية الملغاة مطلع التسعينات قبل حله)، وتعزز الانطباع مع إشراك مدني مرزاق، المسؤول السابق عن الجناح المسلح للفيس في أثناء النقاشات التي أجرتها الرئاسة حول تعديل الدستور، ثم السماح في ظروف مبهمة، بعقد جامعة صيفية للجيش الإسلامي للإنقاذ في جبال جيجل، أحد معاقل العمل المسلح سابقاً.

هذا التقارب المحتمل بين السلطة وجبهة الإنقاذ قد يلقى معارضة من أطراف كثيرة نافذة في داخل مؤسسات الدولة لاعتبارات تاريخية وسياسية، بيد أن هناك عوامل موضوعية قد تدفع إلى هذا التقارب، في مقدمتها إيصال الرسالة التي ستبعث بها السلطة إلى الفرقاء السياسيين الذين سبق أن ساهموا معها في إعادة السلم الأهلي، بأنها تستطيع العمل من دونهم، ويمكنها أن تشكل تفاهمات مرنة، لتحقيق مصالحها دون عوائق.

ويبقى ثبات هذه الاستراتيجية مرتبطاً بكل الأحوال بالانسجام بين أوصال البيروقراطية الحاكمة والاحتمالات القائمة بتفككها.
avata
avata
عبد الحي حاج سالم (الجزائر)
عبد الحي حاج سالم (الجزائر)