غياب "هرتسيليا" الفلسطيني

غياب "هرتسيليا" الفلسطيني

17 يونيو 2015
+ الخط -
في الدول والكيانات المحترمة، تلعب مراكز الدراسات والمؤتمرات الفكرية والبحثية الاستراتيجية دورا مهماً في رسم سياسات الدول حيال مختلف الشؤون التي يمكن أن ترتقي بالدولة، وتجلب الرفاهية والأمن للشعب. ويعتبر مؤتمر "هرتسيليا " الصهيوني الذي تأسس صيف عام 1949 على أرض مخيم عسكري، أخلاه جيش الاحتلال في هرتسيليا، ويبعد نحو ستة أميال عن تل أبيب، منصة للتعبير عن اتجاهات التفكير الاستراتيجي الصهيوني، إلى جانب منصات فكرية مهمة أخرى، مثل مركز "أبحاث الأمن القومي" الصهيوني.

وللمفارقة، لا تقتصر المشاركة في مثل هذه المؤتمرات البحثية المهمة على المفكرين الصهاينة وأصدقائهم من الأوروبيين والأميركان، بل تشمل قائمة المشاركين، في أحيان كثيرة، شخصيات فكرية وسياسية فلسطينية وعربية متنوعة، من الذين نجح الصهاينة في تجنيدهم، ويلتزمون بالرؤية الصهيونية، على الرغم من أن مثل هذه المؤتمرات مخصصة للبحث في تأمين مستقبل أفضل لدولة "إسرائيل"، على المستويين المتوسط والبعيد.

وكان المؤتمر نهاية عام 2000، وعنوانه "ميزان المناعة والأمن القومي"، وغدا هذا العنوان شعاراً دائماً لكل مؤتمرات هرتسليا فيما بعد، حيث تعبر الخطابات التي تلقيها القيادات الصهيونية في مثل هذه المؤتمرات عن النخبة السياسية الحاكمة، استنادا إلى خلفياتها وتوجهاتها الأيدولوجية، وعلى الرغم من التباينات في الأوراق البحثية المقدمة، تنجح هذه المؤتمرات، إلى حد بعيد، في الاستفادة من الاختلافات التي تصب، في النهاية، في إثراء التنوع لصالح واقع "اسرائيل" ومستقبلها.

وعلى الرغم من أن مؤتمر هرتسيليا يحوز على الترويج والتغطية الإعلامية الكبيرة، فان هذا لا ينفي قيمة مراكز بحثية أخرى في الدولة العبرية ودورها، تزوّد صناع القرار في المستويات السياسية والأمنية بنتائج بحوث ودراسات مهمة للرأي العام "الإسرائيلي" والعربي والدولي، وليس أدل على ذلك الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة أوروبية لصالح مؤسسة صهيونية في المملكة السعودية لقياس توجهات الشعب السعودي حيال العداء مع إسرائيل، والنظرة إلى داعش وإيران.

نسرد هذا الواقع عن مؤتمر "هرتسيليا" الذي أقيم على أرض فلسطينية محتلة، لنشعر بمرارة وألم، لافتقارنا، كثورة تحرر فلسطينية، مثل هذه المراكز البحثية والاستراتيجية، لاستقطاب الكفاءات وتجنيدها من مختلف الأقطار والجنسيات للاستفادة من هذا التنوع والاختلاف في إثراء خيارات صناع القرار الفلسطيني في سياق مشروع التحرر الطويل.

ويكفي أن نقول إن "إسرائيل" كانت تفاوض الفلسطينيين بفريق عمل ضخم، مكون من عدد كبير من الفرق العلمية والبحثية المتخصصة، فيما كان الفلسطينيون يفاوضون بفريق صغير من غير المتخصصين.

ثورتنا الفلسطينية التي أديرت، وما زالت، بعقلية الفرد الأنا الدكتاتورية، جريا على طابع الأنظمة التي حكمت مختلف أقطارنا العربية، تفتقر إلى هيئات أو مراكز ومؤتمرات علمية بحثية متخصصة، تقوم بنظم أمور الثقافة والتعليم، بما يحافظ على الهوية الفلسطينية في عصر توزع فيه شعبنا على المنافي والشتات، في متخلف بلدان العالم، فأصبح الفلسطيني غريباً، ليس عن وطنه فحسب، بل عن لغته، وعن تاريخه وتراثه.

يساهم المثقف والعالم والباحث الفلسطيني في نهضة دول، ويتبوأ فيها أرفع المناصب العلمية، فيما يفشل قادة ثورتنا في نظم هؤلاء في طواقم متميزة، للاستفادة من تنوع خبراتهم التي اكتسبوها من أعرق الجامعات في العالم، مثل كورنيل، وهارفارد، وسانفورد، ويال، وشيكاغو وبنسلفانيا، وأكسفورد، وكامبردج وغيرها. 

أكثر من ستين عاما مرت على النكبة، وما زال الفلسطينيون من أغنى الشعوب العربية، تعليماً وثقافةً وفكراً ووعياً، يفتقرون إلى من ينظم هذه الكفاءات المبعثرة في عقد يشكل مستودعات للأفكار، كل في موقعه، لإنتاج أفكار لخدمة ثورتنا ومقاومتنا ومصالح شعبنا في مختلف الشؤون والمستويات.

ثورتنا بحاجةٍ، ومنذ زمن بعيد، إلى نسختها الفلسطينية من مؤتمر هرتسيليا، لتتمكن من العمل على تكريس الفكر التحرري المقاوم، في أذهان أجيالنا الفلسطينية والعربية، فضلا عن عقول الكفاءات المتخصصة الذين علينا أن نجتذبهم. مؤتمرات تعنى بتربية أكاديميين متخصصين، يتبنون الفكر العروبي التحرري المقاوم، وإعدادهم لتبوُّؤ مناصب رفيعة في مختلف مجالات الحياة، تأثيراً ونفوذاً، بهدف نشر وتعميم المفاهيم والقيم التي تساهم في إعادة الحق إلى أهله، والتي تؤهلهم لأخذ دورهم في مواقع صنع القرار. مؤتمرات استراتيجية أكاديمية، تفتح ابواب التعاون مع مراكز بحث ودراسات عربية ودولية، فضلاً عن الجامعات العريقة. مؤتمرات تشارك بفعالية فيها مختلف الشخصيات القيادية والرفيعة المستوى، على اختلاف مشاربها وجنسياتها وتخصصاتها الاقتصادية والإعلامية والأكاديمية والأمنية والعسكرية، من أجل بحث المواضيع الحساسة المتعلقة بحاضر شعبنا وواقعه، ومستقبل مشروعنا التحرري.

مؤتمرات تبحث علاقة الجاليات والتجمعات الفلسطينية المنتشرة في العالم، بفلسطين الشعب والقضية، باعتبارهم ذخراً استراتيجياً لها، وربطهم وأجيالهم الناشئة بفلسطين أرضاً واجبة التحرير، مهما طال الزمن. 

مؤتمرات تحظى بدعم أهم المؤسسات الفلسطينية داخل فلسطين المحتلة وخارجها، وتتعاون معها مختلف وسائل الإعلام؛ وتحوز على دعم الشخصيات السياسية والأكاديمية، فضلا عن رجال الأعمال الفلسطينيين والعرب. مؤتمرات تحاكي مؤتمر هرتسيليا ويحرص صناع القرار على العمل بتوصياتها وتنفيذها، وصولاً إلى التحرير لعقد هذه المؤتمرات على أراضينا المحررة. 
7B62544C-2905-4EC5-9BF3-8CE568ADF7B0
7B62544C-2905-4EC5-9BF3-8CE568ADF7B0
عماد توفيق (فلسطين)
عماد توفيق (فلسطين)