غداً يوم القيامة... سأهرب من وجه جدّي

17 ديسمبر 2016
+ الخط -
عندما قابلته في المرة الأخيرة، جاد بالكلام عن بطولاته وبطولات جيله في العشرينيات والثلاثينيات وحتى الثمانينيات من القرن الماضي ضد الظلم والقهر والاحتلال، في سبيل إنسانية الانسان ورفع راية الحق فوق راية الظلم السوداء. كان عنيداً وثائراً وصلباً في مواقفه، قال لي: سامحني إن أطلت وكررت ما أقول، ولكنني أظن أن هذا آخر عهدي بك، لذا قررت أن أسرد عليك كل هذا لتتذكرني وتترحم علي وتقلدني، ليكون لك نصيب من الحرية في الحياة، سافرت أنا وتوفي جدي بعد شهر من تلك الليلة.


كنت يومها قد قطعت له عهداً بأن أكون حرّاً وألا "أخاف في الحق لومة لائم"، وأن أدافع عن حقوقي وحقوق الضعفاء ما حييت ومهما كلفني ذلك، تماماً كما كلفه- رحمه الله- الكثير من الأرواح والأموال.


وكان من ضمن وعدي له ألا أركع لحاكم، ولا أقبل الخضوع لظلم، وأن أثور ضد القتل وانتهاك حرمات البشر. كرّت سبحة الأحداث، وأخذت تتأزم في الشرق الأوسط تحديداً، وتتجه نحو التعقيد. لم يكن في بال أحد أن ينفجر الشرق الأوسط براكينَ في تونس ومصر وليبيا والعراق وسورية واليمن، لم يكن في ذهننا أن الربيع سيزهر قتلاً وجثثاً وقبوراً، ولم نفكّر أيضاً أننا سنكون شاهدين بصمت على أكثر مجازر التاريخ فظاعة.


من عاش في زمن أجدادنا يعلم اليوم كم نحن متخاذلون وضعفاء، لا بل جبناء، وكيف أننا قتلنا مشاعرنا وحولناها إلى صورة رقمية، تغريدة إلكترونية، أو منشور "فايسبوكي" يتناقله الناس على "جدرانهم"، وهكذا من مدينة إلى قرية، ومن حي إلى آخر؛ صارت العدوى قاتلة؛ تغيير صور "واتساب" و"فايسبوك" و"انستغرام"، مع العلم أن الكثير من الناس يتجاهل الموقف ولا يغير صورة بروفايله، قائلاً من يموت في تلك الأراضي يستحق الموت؟


الواقع أن تحول العالم إلى قرية كونية باعد المسافات بين القلوب، وجعل المشاعر باردة، ونقل الناس من ساحات القتال ومسيرات الاحتجاج في الشوارع، التي تخلق نوعاً من اللحمة الوطنية والإنسانية، إلى شاشات الحواسيب والهواتف الذكية، وبتنا، في أحسن الحالات، ندمع لرؤية فيديو، أو صورة لطفل عربي فقد عائلته، قائلين غداً سيصبح هذا الغلام إرهابياً، ثم نقوم لممارسة حياتنا الطبيعية، وكأن ما شاهدناه فيلم سينمائي درامي يتم عرضه آلاف المرات كل يوم على مدى أربع وعشرين ساعة في كل دولة من دول المعمورة.


في الماضي، ورغم غياب وسائل التواصل الاجتماعي والرقمي، واتساع الكون وتباعد المسافات؛ استطاع أجدادنا مواجهة الظلم والثورة عليه والقضاء على جذوره. كانت قلوبهم أكثر قوة، وعزائمهم أكثر صلابة، واستطاعوا، رغم بساطتهم، محاربة التسلط، والثأر لدماء الأبرياء، والقضاء على دول الطغاة. كانوا يظنون أنهم بأعمالهم تلك بسطوا العدالة في الأرض، أو على الأقل؛ سيموتون مطمئنين بأنهم ربّوا فينا الأرواح المتحررة من عقد الخوف ورفض الموت، وأننا سنكون جاهزين، في كل مرة تتعرض فيها الإنسانية للظلم، أن نثور ونكسر حواجز القهر والقتل.


لم يخطر على بالهم، يوماً، أننا سنرى أنهار الدم تسيل في مدن لا تبعد عنا سوى كيلومترات معدودة، ثم نذهب للنوم وكأن شيئاً لم يحدث، وأحياناً كثيرة على وقع القصف الشديد الذي تتعرض له مدن ثائرة. اليوم بتنا نعد الضحايا، وكأن الحياة أصبحت بلا قيمة، وبتنا نشاهد المدن تسقط واحدة تلو الأخرى باتجاهنا تماماً، كما أحجار الدومينو، ثم لا نتحرك.


غداً، عندما سنموت جميعاً، ونلتقي في ملكوت السماوات بين الجنة والنار، سيبحث عني جدي بين أحفاده وأولاده ليسألني عما فعلت بوصيته، وسوف لن يكون لدي جواب مقنع، ماذا سأقول له؟ كنت أكتب المقالات وأحرك مشارع الناس إلكترونياً؟ سيبصق في وجهي حتماً، هذا إن تماسك نفسه. لذا سأهرب، سأخفي وجهي عنه كي لا أخيب أمله في. يكفيني أصلاً وقفة الذل والعار بين يدي ربي عندما يسألني كيف نصرت الإنسانية؟ وأقول له بمنشور "فايسبوكي" يا إلهي، أظنني أستحق الجحيم، أو على الأقل لا أستحق نعيم الجنة.
D594DF08-0A9F-4CB5-ACDE-58F82742143C
علاء معصراني

كاتب لبناني مقيم في كندا، مهتم بشؤون الشرق الأوسط والعالم العربي. حاصل على درجة ماجستير في العلاقات الدولية من جامعة كيبيك في مونتريال، تمحور موضوعها حول النظرية البنائية في العلاقات الدولية واستخدامها كوسيلة للتأثير على سيكولوجية الجماهير ووعيها الجماعي. شغل العديد من الوظائف في مجال التربية والإعلام والعلاقات العامة والدبلوماسية.