غبطة الإنجازين الأمنيين في فرنسا: ثغرات ومبالغات

11 سبتمبر 2016
قلب باريس يعج بأفراد الأمن (أوريليان موريسار/Getty)
+ الخط -
حققت القوى الأمنية الفرنسية إنجازاً قلَّ نظيره في السنوات الأخيرة، تمثل في إجهاض اعتداء وشيك وتفكيك خلية مكونة من ثلاث نساء تراوح أعمارهن بين 19 و34 عاماً واعتقالهن، مساء يوم الخميس الماضي، على خلفية اعتداء فاشل بسيارة مملوءة بقوارير الغاز كانت مركونة قرب كاتدرائية "نوتردام" في قلب الحي السياحي بباريس. وفور الإعلان عن اعتقال النساء الثلاث، انبرى وزير الداخلية، برنار كازنوف، إلى ارتجال مؤتمر صحافي ليعلن عن نجاح السلطات في "إجهاض اعتداءات وشيكة من طرف نساء متطرفات وعنيفات". ومساء الجمعة الماضي، عقد مدعي الجمهورية المكلف بقضايا الإرهاب، فرانسوا مولان، مؤتمراً صحافياً قال فيه إن "خطة هذه المجموعة كانت بالتأكيد تنفيذ اعتداء"، موضحاً أن النسوة "تم توجيههن" من جهاديين بتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في سورية. 

ورسم المدعي العام معالم ظاهرة جديدة في خارطة التهديد الإرهابي بفرنسا قوامها النساء والفتيات اللواتي كن حتى عهد قريب مجرد تابعات لأزواجهن المتشددين ولم يتورطن بشكل مباشر في الاعتداءات. وفي قلب هذه الظاهرة الجديدة، سارة وإحدى المعتقلات التي حاولت طعن شرطي خلال عملية اعتقالها. وكشف المدعي العام أن سارة معروفة "لصلاتها بالتنظيم الجهادي". وأضاف أن الجهادي الذي ذبح شرطيين في يونيو/ حزيران الماضي في مانيانفيل قرب باريس كان سيتزوجها، ثم عادل كرميش الذي نفذ اعتداءً في كنيسة في منطقة النورماندي في يوليو/ تموز الماضي. وحذر مولان من "الشخصيات المقلقة جداً"، أي عدة شابات مرشحات للانضمام إلى ما يسمى بالحركات "الجهادية الإسلاموية"، مؤكداً أن "داعش" لا يستخدم "فقط الرجال بل أيضاً النساء اللواتي يتعارفن ويخططن لمشاريع إرهابية عبر الإنترنت". كما كشف أن الأجهزة الأمنية تتابع تزايد حالات التطرف في أوساط النساء وأنها وجهت التهمة إلى 59 امرأة في قضايا تتعلق بـ"الإرهاب" في فرنسا من أصل 280 قضية.

ولم تلبث وسائل الإعلام الفرنسية المكتوبة والمرئية والمسموعة أن تهافتت على هذا المنحى الجديد في الحرب على "الإرهاب"، وأفردت مساحات مهمة تناولت فيها ظاهرة "الفتيات الجهاديات" والخطر الناجم عن استخدامهن من طرف تنظيم "داعش" لارتكاب اعتداءات داخل التراب الفرنسي.


والواقع أن هذه الظاهرة كانت موجودة منذ بروز الخلايا "الجهادية" الأولى في فرنسا. كما أن ملفات كثيرة فتحها المحققون في السنوات الأخيرة بعد تتبعهم لمراهقات في مواقع التواصل الاجتماعي، عبّرن فيها عن حماستهن للجهاد وارتكاب "أعمال بطولية" نصرة لدولة "الخلافة". وغالباً ما خلصت هذه التحقيقات إلى كون هؤلاء الفتيات يتميزن بشخصيات نفسية هشة ونزعات انتحارية، ويقعن في فخ أشخاص متطرفين، بعضهم موجود في فرنسا وآخرون في بلجيكا أو في مناطق القتال في سورية والعراق. غير أن الجديد الذي كشفته "خلية النساء الثلاث" هو انتقالهن إلى مرحلة التخطيط الواعي لاعتداءات من دون الاستعانة بالرجال، حسب المعطيات الأولية للتحقيق الذي ما يزال متواصلاً. ويرى بعض المراقبين أن ثمة مبالغة رسمية وتضخيم إعلامي في قضية النساء "الجهاديات" وأيضاً في الإشادة بنجاح الأجهزة في إجهاض الاعتداءات الوشيكة.

الرواية الرسمية لقضية السيارة المملوءة بقوارير الغاز والتحقيق السريع في ملابساتها الذي قاد المحققين للوصول إلى خلية النساء الثلاث تطرح تساؤلات عدة. أولها أن ثمة سذاجة واضحة تمثلت في ركن سيارة في مكان ممنوع على السيارات وترك قارورة غاز واضحة للعيان في المقعد الخلفي للسيارة، ونزع لوحة الترقيم عن الأخيرة. وهذا يكفي بحد ذاته لجعل السيارة منذ الدقائق الأولى من ركنها، مشبوهة في نظر المارة. كما أن القوارير الخمس الموضوعة في مخزن السيارة الخلفي لم تكن موصولة بأي جهاز للتفجير. ناهيك عن أن جدلاً اندلع حول تأخر قوى الأمن في الحضور بعدما قام صاحب مقهى بإعلام الشرطة بوجود السيارة المشتبه بها. وهو التأخير الذي دام حوالي ثلاث ساعات كاملة على الرغم من أن المنطقة السياحية في قلب باريس تعج بأفراد الأمن ومقرات الشرطة.

هذه المعطيات تؤكد إلى حد كبير أن الأمر قد يتعلق بعمل مرتجل وهاو يفتقر إلى الحد الأدنى من التخطيط الذي يتمتع به عادة مرتكبو الاعتداءات "الإرهابية" وحتى المبتدئين من بينهم. كذلك، وعند اعتقال النساء الثلاث، لم يكن في حوزتهن أي سلاح ناري أو متفجرات بل مجرد سكاكين مطبخ عادية متوفرة في جميع الأسواق. وهو ما يطرح علامة استفهام حول جدية الاعتداء الوشيك الذي قيل إنهن كُنَّ يخططن له في محطة "ليون" للقطارات بباريس بثلاثة سكاكين.

وكان من اللافت أن هذين "النجاحين الأمنيين" والهالة الإعلامية حولهما ترافقا مع الخطاب الذي ألقاه، ظهر الخميس الماضي، الرئيس فرانسوا هولاند، حول "الديمقراطية في مواجهة الإرهاب". وقد فصّل فيه حصيلة أربع سنوات من ولايته الرئاسية في محاربة "الإرهاب". وانتقد فيه المزايدات السياسية حول هذا الموضوع، والتي يمارسها خصومه في المعارضة اليمينية الذين يدعون لسن المزيد من القوانين من أجل محاربة "الإرهاب". خطاب اختتمه هولاند بالتأكيد على أنه سيقاتل من أجل فرنسا في الأشهر والسنوات المقبلة. فهل يكون التناول الإعلامي لهذين "النجاحين" في الحرب على "الإرهاب" استجابة لحاجة سياسية داخلية من أجل عرض الإنجازات الأمنية وطمأنة رأي عام فرنسي يعيش على إيقاع الخوف والرعب من اعتداءات جديدة؟