عن قصيدة تشبهني

12 فبراير 2015
+ الخط -

كنت طالبة في جامعة الكويت، في نهاية الثمانينات، أحضر جلسات أسبوعية، يعقدها لنا في مكتبه أستاذ مادة الفلسفة الإسلامية، الدكتور أحمد الربعي، رحمه لله، وكان من عادته أن ينهي كل جلسة بقصيدة مختارة منه، يطلب من أحد الطلبة والطالبات الحاضرين إلقاءها على مسامع الحضور، ثم توزيعها مطبوعة عليهم، تحضيراً للنقاش حولها في جلسة الأسبوع المقبل.
في بداية إحدى تلك الجلسات، أعطاني الربعي ورقة مطبوعة عليها قصيدة الخبت. ولم أعرف شاعرها، لكنه طلب مني أن أقرأها سريعاً بيني وبين نفسي، لأنني سألقيها في نهاية الجلسة كالعادة.
لم أكن أعرف معنى عنوان القصيدة، وخجلت أن أسأله عنه، ولم نكن في زمن غوغل يومها، فاكتفيت بالقراءة مرة ومرات، حتى شردت عمّا يقال في الجلسة، ولم أنتبه إلا والدكتور الربعي يطلب مني أن ألقيها على الحضور، فألقيتها بصوتي المبحوح كعادتي، ولكنني هذه المرة حاولت أن أكون مختلفة قليلاً، أن أتخلى عن ترددي وخجلي، أو أقف بدلاً من الإلقاء جلوساً، أن أظهر للجميع، بدلاً من التواري المتعمّد سابقاً، وأن أعيد بعض المقاطع بتؤدة وهدوء، بدلاً من السرعة التي كانت تجعل أستاذي يطلب مني التمهّل، وبتمثّل كل ما أمر عليه من معان. كانت القصيدة أجمل من كل ما سبق، وكنت مسحورةً ومبهورةً بقصيدة تشبهني تماماً، وتبعث بداوتي اليتيمة في قلب المشهد، لتنتصر لي ولنفسها، أمام تعليقات الآخرين المختلفين عني.
كنت أريد الانتقام من خلال قصيدة جميلة، لا أعرف قائلها بعد، من كل القصائد الجميلة الأخرى التي سبق أن أُلقيت في ذلك المكان، لشعراء رائعين، لكنهم لا يشبهون واقعي الغريب قليلاً. سبق لي أن ألقيت قصائد لأمل دنقل وعبد الوهاب البياتي ويوسف الخال وصلاح عبد الصبور، وسمعت قصائد أخرى لشعراء آخرين، لكنها المرة الأولى التي ألقي فيها قصيدةً، يستعين شاعرها بمفردات تغازل ما تبقّى من بداوة بين تضاعيف عباءتي، لتقاوم ما اكتشفته مظاهر للحياة المغرقة في حداثتها، وتباشير عولمتها بشكلها اليومي بين أقراني في جامعة الكويت، عندما دخلتها أول مرة! كنت قد انتميت للخبت شعراً، وجغرافيا فعلاً، وأنا أستعد لإلقاء القصيدة. أرخيت عباءة الرأس التي كنت ألبسها، وتميّزني عن كل طالبات المجموعة الحاضرة في ذلك الزمن الكويتي البعيد، على كتفي، ورفعت صوتي بالقصيدة.
كنت قد قفزت إلى واقع شعري جديد فعلاً، عندما انتهت الجلسة. لم أكن أعرف الشاعر، لا بالاسم ولا بغيره. أعرفه بالخبت وحده، وكانت الخبت بوصلتي إلى المكتبة، لأبحث عن المعنى في اللغة، أولاً، ثم في الجغرافيا، وفقاً لما أحالتني إليه اللغة. لم أكن أحتاج الجلسة النقدية التالية لأعرف أن "الخبت" حلّقت في سماء القصيدة العربية، وتجاوز بها شاعرها الكثير من مجايليه العرب، بإصراره على الانبعاث الشعري من عمق أرضه الطيبة، الضاربة في أعماق البعد والتاريخ والوطن والجمال.
بعد تلك الجلسة التي سحرتني، شعراً وخبتاً، وصالحتني على موروثي، بسنوات، كان صاحب الخبت يخاطبني في مراسلاته ومكالماته لي بالنداء المحبّب: "يا صديقتي"، فأي صداقة يمكن أن تنبت بين رجل وامرأة في الجزيرة العربية على أرض قصيدة؟ لكن، هذا ما حدث فعلاً، واستمر طويلاً وكثيراً بلا لقاء شخصي. لم يكن من المهم جداً لي، أو له، أن نلتقي شخصياً، ولم يكن مخططاً للّقاء الذي تحقّق أخيراً أن يبدو بتلك الأهمية فعلاً، لولا أنه جاء بدوره في ظرف استثنائي، لم نقو، نحن الإثنان، على الخروج من أسره الحزين لحظتها، إلا بالدموع.
 

 

 

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.