عن استخدام النصوص

10 يناير 2015
+ الخط -

في تسعينيات القرن الماضي، حدثت انتخابات حرة في الجزائر، وفازت فيها جبهة الإنقاذ الإسلامية، ولكن سرعان ما انقلب عليها العسكر الجزائري، ودخلت البلاد في دوامة عنف رهيبة.
في تلك الأثناء، ألّف أمين معلوف كتابه الجميل (الهويات القاتلة)، وقال فيه إننا قد نقرأ آلاف الصفحات عن الإسلام، من دون أن نفهم لماذا يفعل الإسلاميون ما يفعلونه في الجزائر، بينما قد تكون قراءة عشرات الصفحات فقط عن الاستعمار الفرنسي للجزائر ذات قدرة تفسيرية أكبر.
النتيجة نفسها توصل إليها البحث المهم الذي أصدره مركز الجزيرة للدراسات عن تنظيم الدولة، قال فيه إنه إذا افترضنا أن تنظيم الدولة يعد تطبيقاً وإفرازاً مباشراً للنصوص الإسلامية، فلماذا لا نرى ظاهرة شبيهة على امتداد التاريخ الإسلامي مع أن النص شديد القدم و(تنظيم الدولة) ظاهرة حديثة جداً. وينقل إدوارد سعيد في كتاب الاستشراق عن فولتير قوله إن هناك مغالطة في أن يفترض أحد ما أن الفوضى الهائجة الإشكالية التي لا يمكن التكهن بمساراتها التي يعيش فيها الإنسان يمكن أن تفهم على أساس ما تقوله الكتب (النصوص)، لكن سعيد يعود، بعد اقتباسه من فولتير، فيؤكد أن عموم المستشرقين تعاملوا مع الشرق وفهموه، بناء على نصوص استشراقية، كتبها أسلاف لهم، وليس بناء على واقع عاينوه.
الحقيقة أن طريقة (التنصيص) هذه يتبعها عديدون مع خصومهم. وأقصد، هنا، التعامل مع الخصوم على اعتبارهم (نصوصاً)، تتم قراءتها ودراستها وإطلاق الأحكام عليها. و(التنصيص) يفترض أن مجتمعات الخصوم تطبيقات حرفية للنصوص. وبشكل آخر، إن ظاهرة معينة، أو سلوكاً معيناً عند مجتمع خصم، موجودة، لأن هناك نصاً موجوداً، مع أن التاريخ ينبئنا بالعكس، فالعلاقة بين المجتمعات ونصوصها (الدينية) متبادلة، فكما نجد أن النص (الدين) يؤثر في المجتمع، نجد أن المجتمع يؤثر في النص.
والتنصيص يتعامل مع الخصم على أنه كائن عديم الشعور، لا يتأثر بالعوامل المحيطة به، وهو ثابت لا يتغير، حيث إن هذا الخصم هو رهن للنص الثابت كذلك.
كما أن النصوص تستخدم لفهمهم (هم) فقط، أما (نحن)، فمن الإجحاف الاقتصار على النصوص لفهمنا، فـ(نحن) كائنات شديدة التعقيد والتركيب، وتحيط بنا مؤثرات مختلفة، كما أن لنا تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً. أما (هم) فكائنات أولية بسيطة، تعيش في العدم، لا يحتاج فهمها وتحليلها إلا إلى قراءة بعض الكتب.
فحين يهاجم علماني إسلامياً، على سبيل المثال، فإنه يلجأ إلى أمهات الكتاب، مستخرجاً من بطونها نصوصاً تدعم وجهة نظره القائلة إن داعش هي الإسلام نفسه، في حين أن هذا العلماني نفسه، حيث يناقش خطأ (أو كارثة) ما ارتكبه منسوباً للتيار العلماني، فإنه غالباً ما يحاول تحليل هذا الخطأ من جوانب عديدة، سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها.
ونجد أن (التنصيص) يزدهر وينتعش في لحظات الصراع، وأحياناً، يكون وسيلة لتأجيج الصراعات، كما نجد في فضائيات بث الكراهية الكثيرة، فكثيراً ما رأينا سنياً، أو شيعياً، على قناة من هذه القنوات، وهو يلوح للكاميرا بمقطع من كتاب من كتب الطائفة الأخرى، ليفسر لنا بالدليل القاطع سلوك (الآخرين) الهمجي.
تسود، الآن، حملة عالمية تحمل الإسلام (هكذا بهذا الإطلاق) مسؤولية العنف والإرهاب في العالم. أطلق تنظيم الدولة، وأخيراً، اعتداء "شارل إيبدو" حملة كراهية وعنصرية ضد المسلمين في العالم، كما تسود نظرة للمسلمين على اعتبارهم نسخة واحدة، لا تنوع بينهم. بشكل أدق، إنهم (نصوص) متخلفة قديمة، تعكّر صفو الحداثة.
والحاصل أنه حين يتم إدراج هذا التعامل (النصوصي) في سياق ميزان قوى يميل، بوضوح لصالح خصوم المسلمين، فإنه سينتج، في النهاية، مسلمين على شاكلة هذه النصوص.
لا شك أن حادثة "شارل إيبدو" ستكون محطة مفصلية في تاريخ علاقة فرنسا مع الإسلام. ولكن، هل ستكرر فرنسا ما فعلته الولايات المتحدة، بعد أحداث 11 سبتمبر، وما تبعه ذلك من سياسات ولدت العنف والإرهاب أضعافاً مضاعفة، أم أنها ستكون مناسبة للدول الكبرى، لتتعاطى مع قضايا العالم الإسلامي بطريقة مختلفة؟ الاحتمال الأول هو المرجح للأسف.

 

 

AAB80F65-2B39-4855-83C7-4E3BAEB5CEAE
AAB80F65-2B39-4855-83C7-4E3BAEB5CEAE
محمد رشدي شوربجي (سورية)
محمد رشدي شوربجي (سورية)