عن أبي وابني وفلسطين التي لا يذهب لتحريرها أحد

عن أبي وابني وفلسطين التي لا يذهب لتحريرها أحد

15 مايو 2014
القدس محطّ الكلام... فقط
+ الخط -
كان أبي، كلّما تجاوزته سيّارة مسرعة، سائقها لا مُبالٍ بإحساس الخطر، الذي تركته عجلاته على قلوبنا، يصيح: "شو رايح تحرّر القدس؟". وبالطبع لا يسمعه السائق المتهوّر، الذي يكون قد ابتعد مسافة كبيرة.

وإذا بالغ مسؤول سياسي في تصريحه الناريّ، أو هدّد ورعد، يعتدل أبي في جلسته على الكنبة، ويقول له بنبرة استخفاف وبصوت يبدأ غليظا وينوص في المنتصف، حتّى يكاد السامع لا يسمع الأحرف الأخيرة من الكلمة الختامية: "شو رح تحرّر القدس يعني؟".

هكذا كانت القدس تتكوّن في رأسي الصغير، على أنّها بابٌ للسخرية من جبروت سائق، قد يكون "مدعوما" أو "شبّيحاً" لا قدرة لسيّارتنا "المكركعة" على اللحاق بسيارته، ولا قدرة لأبي على اعتراض طريقه، أو شبّاكٌ يرمي إليه أبي سخريته من السياسيين، الذين لا قدرة لنا على تخفيف نيرانهم الكلامية، والذين لا نستطيع ردّ أذاهم.

القدس هذه، صارت محطّ كلام لديّ أيضا حين يتجاوزني سائق عنيد وبلا أخلاق. فأقول له الجملة نفسها، ربّما مع تحويرات لها علاقة بدرجة غضبي. كأن أفسح المجال لمسرع قائلا له: "تفضّل حرّر القدس، وما تتأخّر. ناطرينك"، إذا كنتُ هادئا، أو: "روح حرّر القدس يا ابن الكذا والكذا"، إذا كنتُ غاضبا.

وصار اخوتي يستعملون محطّ الكلام نفسه، وبعض أصدقائنا، من دون أن ينتبهوا. ولم أدقّق مرّة في السبب الذي يجعل من تحرير القدس محطّ كلام. لكنّني بدأت محاولات كي أفهم.

في رأس الطفل الذي كنته، تأسّس وعيي على أنّ القدس مكان لا يذهب أحد لتحريره. وربما في رأس أبي وُلِدَ "محطّ الكلام" هذا من وعيه أنّ المتهوّرين الذين يضعوننا في دائرة الخطر، باسم فلسطين، غالبا ما يكونون مسرعين من أجل أمر آخر. كأن يكون السائق متأخّرا على موعد غراميّ، أو يكون المسؤول السياسي يحاول فضح وزير ما لأنّه عرقل له مناقصة ومنع عنه "سرقة" ليعطيها لسارق آخر.

هكذا صرنا، كعائلة، متّفقين على هذه الأفكار، دون أن نقولها، وإن مرّة، طوال ثلاثين عاما من حياتي. لكنّنا نسخر من المستعجلين بلا سبب، أو الذين "يدعسون" الآخرين، بالقول إنّهم "سيحرّرون القدس"، قاصدين إنّهم، فعلا وطبعاً، لن يحرّروها.

وأنا، الذي ضيعتي ربثلاثين في جنوب لبنان، على الحدود مع فلسطين المحتلّة، في قضاء مرجعيون، أرى فلسطين كلّ نهاية أسبوع تقريبا. أمرّ قرب الحدود من بوّابة فاطمة في كفركلا، ثم قرب "شجرة العديسة" لأصل إلى ضيعتي.

"على الطريق"، لافتات كثيرة لشيوخ ونوّاب ورؤساء يَعِدون بتحرير فلسطين. وإلى جانبها صور "شهداء" يقال إنّهم "سقطوا" في سوريا. شباب جنوبيون هتفوا طوال حياتهم "زحفا زحفا نحو القدس، حربا حربا حتّى النصر"، في التظاهرات التي كنت أشاهدها من نافذة غرفتي في ضاحية بيروت الجنوبية. لكنّ الأمر انتهى بهم يقاتلون في سوريا مواطنين عرباً لا إسرائيليين. وبعض هؤلاء "الشهداء" شارك في قصف مخيّم اليرموك الفلسطيني، وبعضهم لم يقاتل إسرائيل يوما، بل تدرّب وتوجّه إلى سوريا فورا. ولا يعرف عن فلسطين شيئا.

هكذا هم، كما لو أنّهم يمرّون مسرعين إلى جانبي، يتركون لنا الخطر هنا، ويوحون أنّهم يريدون، من حمص وحلب واليرموك، تحرير فلسطين. والذين يرسلونهم إلى سوريا يخرجون بتصريحات نارية، هي نفسها التي كان والدي يعتدل في جلسته ليسخر منها.

وأنا اليوم، وقد صرت والدا، يجلس ابني في السيّارة ورائي، وأتابع الأخبار على الراديو، ويجلس قربي، في الصالون، فأعتدل في جلستي على الكنبة، حين يخرج أحد الكاذبين من شاشة التلفزيون، وأقول: "ما ع أساس بدكن تحرّروا القدس؟". 

المساهمون