عندليب الدقّي الذبيح في أبو ظبي

عندليب الدقّي الذبيح في أبو ظبي

24 اغسطس 2020

محمد هنيدي في "عندليب الدقي" .. ضد إسرائيل

+ الخط -

بعد جريمة اغتيال الطفل الفلسطيني الشهيد محمد الدرة برصاص القتلة في جيش الاحتلال الصهيوني، نهاية سبتمبر/ أيلول عام 2000، اندلعت في الفضاء السياسي والثقافي والغنائي العربي أكبر تظاهرة مندّدة بالجريمة ومشدّدة على وحدة الدم والمصير العربيين، وأن فلسطين ليست قضية الشعب الفلسطيني وحده، بل هي قضية كل مواطن عربي، وكل إنسان حر وشريف على وجه الأرض.
كان التعبير الأوضح والأبلغ عن الغضب العربي النبيل الأوبريت الغنائي "الحلم العربي" الذي شارك فيه مطربون ومبدعون من كل الوطن العربي تقريبًا، تجمّعوا في عمل مشترك ليقولوا للعالم إن الدم واحد والجرح واحد والحلم واحد: حلم عربي بالوحدة وبالتحرير وبالنصر، غير أن أكثر ما يلفت النظر في الأوبريت الذي صار من الممنوعات على الشاشات العربية، بعد خضوعها لقوانين الزمن الصهيوني، أن منتج العمل يخص بالشكر "دولة الإمارات العربية المتحدة متمثلة بهيئة الإذاعة والتلفزيون، التي ساهمت في تزويدنا بالمواد الأرشيفية".
كان العمل مليئًا بمشاهد البربرية الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، وحافلًا بالمعاني الحقيقية لأخوةٍ عربيةٍ مؤسسةٍ على شراكة اللغة واللون والدين والثقافة ووحدة الجغرافيا والتاريخ، على نحوٍ جعل العمل الغنائي أقوى وأوسع تأثيرًا من آلاف الخطب والبيانات والتصريحات السياسية، إلى الحد الذي عرّى الكيان الصهيوني أمام العالم، فصار يرى في إذاعة الأوبريت امتدادًا لانتفاضةٍ مشتعلةٍ في الأرض المحتلة، ما يجعله عملًا عدائيًا يخل بسياسات التطبيع التي تنتهجها دول عربية وقّعت اتفاقاتٍ معه، ولم تتوقف الضغوط الصهيونية حتى توقف بث الحلم العربي في الجماهير العربية، وامتنعت الفضائيات عن إذاعته، ومن ثم انحسر إلى غيابة "يوتيوب"، في ظل هواجس، ومخاوف حقيقية من حذفه، بالنظر إلى الجنون الذي أصاب معايير النشر على مواقع "السوشيال ميديا" التي بدت في لحظة كأنها تدار بمعرفة الكنيست الصهيوني.
بعد ذلك بسبع سنوات، أنتجت السينما المصرية فيلمًا ضد التطبيع باسم "عندليب الدقي"، قدّم فيه الفنان محمد هنيدي شخصيتي شقيقين توأمين، أحدهما مصري من منطقة شعبية، والثاني إماراتي صاحب مؤسسات اقتصادية ضخمة، تفرّقت بهما السبل، ثم التقيا فجأة بعد أن أخبرت الأم المصرية ابنها بأن شقيقه التوأم يعيش في الإمارات، حيث أخذه والده وسافر بعد ولادته.
النقطة الجوهرية في الفيلم أنه بعد أن تأكد التوأمان أنهما توأمان، اتضح للإماراتي أنه وقع في فخ التطبيع الاقتصادي مع مافيا صهيونية عالمية، فقرّر رفض التوقيع على صفقة ضخمة، فتم اختطافه وإخفاؤه، فلجأت مديرة مكتبه المتواطئة مع العصابة الصهيونية للاستعانة بتوأمه، المصري الفقير، ليبرم الصفقة أمام الشركة العالمية، استغلالًا للتطابق في ملامح الشخصين.

لحظة التوقيع، يلمح الشقيق المصري النجمة السداسية على جاكيت الطرف الصهيوني، فيقلب الطاولة. وفي مشهد "فلاش باك"، استعاد فيه صور اغتيال محمد الدرّة، ومشاهد تكسير عظام الأطفال الفلسطينيين ونسف منازلهم يقرّر رفض التوقيع، لأنه ليس أقل وطنيةً من توأمه الإماراتي، من دون أن يهتز أمام تهديدات العصابة بتصفيه شقيقه المختطف وتصفيته هو شخصيًا.
حين عرض الفيلم في ذلك الوقت اعتبره بعض المتابعين دعاية سياسية للإمارات عن طريق السينما، لكنه نوع محترم وإيجابي من الدعاية، مما قيل وقتها ليت كل الدول العربية تسعى إلى صنع دعاية سياسية لنفسها بهذا الشكل.
اترك الأوبريت والفيلم، وأقفز عبر الزمن 13  عامًا، سيصفعك مشهد انتهاك صارخ لبراءة أطفال إماراتيين بإجبارهم على ارتداء قمصان تحمل العلم الصهيوني في دبي..  وسترى وتسمع مداخلات لإماراتيين على الشاشات الصهيونية، يعلنون فيها فرحتهم بالتوأمة بين حكومة بلادهم وحكومة الاحتلال الصهيوني، ويعبرون فيها عن تبرّمهم وسخطهم من الفلسطيني المقاوم والعربي الرافض للذوبان في الاحتلال.. ستقرأ لسياسيين وإعلاميين إماراتيين يكتبون بالحبر الصهيوني، ويذرفون الدمع على كل لحظة عاشوها محرومين من دفء العلاقة مع الصهيوني.
ستجد ذلك كله وأكثر، لكن إياك أن ترضخ لإرهاب مشاهد البورنو السياسي والحضاري المصنوعة بتقنية عالية الجودة، أو أن ترفع الراية البيضاء أمام موجات الاجتياح بالصورة وبالكلمة لإقناعك بأن هذا العار الحضاري هو اختيار الشعب الإماراتي الشقيق.
كل ما يحاصرك من مظاهر انحطاط سياسي وإنساني هو إنتاج ضخم تتشارك فيه حكومتا تل أبيب وأبو ظبي، لسحقك معنويًا وتكفيرك بأصلك وفصلك وانتمائك الحضاري والقومي والوطني، لكي يغتصبوا ذاكرتك ويحتلوا وجدانك ويقنعوك بأن تُصالح على الدم، ويجبروك على أن ترى قلب الغريب كقلب أخيك، ويرغموك على أن تنحني وتقبل اليد التي سيفها أثكلك، ثم تنهض لتقطع يدًا سيفها لك.. قل لهم مع أمل دنقل: لا تُصالح.

وائل قنديل
وائل قنديل
صحافي وكاتب مصري، من أسرة "العربي الجديد". يعرّف بنفسه: مسافر زاده حلم ثورة 25 يناير، بحثاً عن مصر المخطوفة من التاريخ والجغرافيا