على قدر المحبّة

على قدر المحبّة

30 يناير 2017
الإنسان يشعر أنه موجود كلّما شَك (Getty)
+ الخط -
لا.. لا يكون العتاب - أو على الأقل ليس هذا ما أقصده هنا - يبدو العنوان مُتوقعًا قليلًا، ولكن أين أهرب منه؟ والفِكرة هي: على قدر المحبّة تكونُ الأسئلة.

كنت أسرح شَعري في المرآة ونجاة الصغيرة تغنّي "لا العاشِق مرتاح ولا الخالي مرتاح" وأفكّر، في كلا الحالين يبدو الأمر صعبًا، وكالعادة كان هناك حوار متخيّل:

- كلاهما ليس مرتاحاً.. لمَ؟
- هل هناك حالة ثالثة؟ اللامبالي مثلاً؟
- ما هذا؟!

انزلقت إلى كرسي المكتب، واستعدت أيامًا سبَقت، يبدو الشخص الواقع في الحُب واقعًا في ورطة، ربّما لهذا اصطُّكَ تعبير "ورطة عاطفيّة".. حين تكون علاقتنا بأحدهم لا تنفَصِم بسهولة رغم ما تُجابِه.

شخص ليس مرتاحًا؛ يعني أنه يُفكّر دائمًا في احتمالات الفشل قبل احتمالات النجاح. هناك لحظات مضيئة.. أعترف، وهناك لحظات لا أفكّر فيها في أي شيء كضمّة مُفاجئة أنسى بها بؤس العالم ويتلاشى القلق ثم تتبعها كل الأسئلة الكبيرة. لكن هناك لحظات أخرى من الشك، تدفع بالأسئلة والسيناريُوهات كرصاصات رشاش متتابعة، لا أكاد أشهق من الرصاصة الأولى حتّى تخترقني الثانية!


يقول محمود الورداني في "رائحة البرتقال": "لا بد أن يكون لامتثال كل منّا للآخر سبب ما.. هذا الفيض من السكينة وهدُوء السر وخفّة الروح وامتلائها والاطمئنان إلى استغراقنا معًا لا بد أن يكون له سبب ما"، هذهِ لقطة ذكيّة لشعور بالسعادة والامتلاء لا يُضاهيه شيء لكنه في نفس الوقت يجعلك كالمجنون تبحث عن السبب.. تبحث عن الحكمة أو تبحث عن المصيبة القادمة التي لا بد أن تتبع إحساسًا عظيمًا كهذا، الإنسان يشعر أنه موجود كلّما شَك.. بالطبع، يؤكّد ذكاؤه ويوحِي لنفسِه بطمأنينة أنه لن ينخدع مرة أخرى، وبعد عدّة خبرات، يقول لروحِه: هذه المرّة سأحترس!

كما يقول أمل دنقل "رفسةٌ من فرس، تركت في جبيني شجًا، وعلّمت القلب أن يحترس" تُصبح هيَ العنوان، حذرٌ مُفرِط من كل شيء وأي شيء، وهنا يُصبح الحذر من الحُب واجبًا، ألم يصِبك بمشاعر مؤلمة من قبل؟ ألم تفقِد أحبابًا سواء لظروف الحياة أو السفر أو الموت؟ أو -للأسوأ - على أشياء أكثر تفاهة من أن تكون سببًا لكل هذا الألم؟

لكن صوتًا كصوته، يفلَح دائمًا في أن يخلق مساحة جديدة للصفَاء ويفرض على الأسئلة حصارًا شديدًا.. أحياناً يفرضه على الشعور بالبرد كذلك؛ غالبًا إذا كانت درجة الحرارة لم تتعد الصفر بعد وأجد نفسي أنساب بسهولة الزئبق، حتّى ليُمكن تعبئتي في قوارير، وأجدني أصدّق أهل الطب الذين زعموا لابن عبد ربه "في العِقد الفريد "أن الصوتَ الحسن يسري في الجِسم ويجرِي في العُرُوق، فيصفُو الدم ويرتاح له القلب، وتهشّ له النَّفس، وتهتزُّ الجَوَارح وتخفّ الحَركات"، فأحيانًا مُكالمة تليفونية في الوقت المناسب تضمن أحلاماً سعيدة ونوماً عميقاً.. فماذا عن أغنية نغنّيها سويًا؟

ورغم أن إليزابيث جيلبرت تُصر على أن "فقد التوازن في الحُب أحيانًا، هوَ جزء من عيش حياة متوازنة" إلا أنني أخاف من عدم الاتزان؛ أريد لكل شيء أن يكون منضبطًا ومعروفًا فأشرع في توجيه ضربات استباقية تهدم الجزء غير المتوقّع من هذا الخيال الجميل الذي يبدو عجيبًا جدًا تحققه في الدنيا وعلى أرض الواقع، لكن في دواخِلي أريدُ أكثر! أريد ألا أتوقّع شيئًا! أريد أن أفاجأ في كل مرة كأنها لم تحدث قبلًا، كأن هذه الرغبة التي لا تنطفئ، لن تنطفئ أبدًا.. طمعٌ شديد! وكأنني كنت أكذب حين أقول إن الأمر يُمكن السيطرة عليه، وكأن كل الكلام المتعقّل عن أهمية التوازن كان فقط لأنني لا أستطيع أن أصدّق نِعَم الحياة بعد كل ما حدث فأرسلت من يُعلّمني أن الكُفر ليس أبديًا.

بعد قليل، تجدني الأسئلة من اتجاهٍ مُضاد، وأريد أن أحميه كما أحمي الخاتم الفضي المُلتف حول إصبعي، كما تقول قصيدة الغزل الفرعونيّة القديمة، وأن أرتديه، وأن ينساب في الماء الذي أستحم به، وأن تعلق رائحته بكل الكريمات والعطور التي استخدمها، وأتساءل.. إلى أي درجة يُمكنني أن أكون تقليديّة، كأنني مجموعة من الكليشيهات الخارجة من قصائد عربيّة قديمة، لكّني أعود فأقول: هذهِ القصائد لم تُكتَب من العدَم.

ويهتف صوتٌ داخلي: كثير! تعقّلي قليلاً. فأقف أمام الكُتب وأحاول البحث عن إجابة لشيء ناقص، لم لا أجد نقطة التوازن؟ فيقول لي أَبُو يَزِيد البسطامي: المحبة استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من حبيبك! كأنّ هذا ينقصني! أنا أصلاً لا أحب إلى هذه الدرجة.. فيبتسم لي أمل دُنقل هازئًا "تمشي فوق الماء وتريد ألا تبتل قدماها الفضيّتان".. بغض النظر عن فضيّة أقدامي، فمن يريد أن تبتل قدمَيه في هذا العالم المُريع؟

نمشِي سوياً في شارعٍ ضيّق، أتعلّق بذراعه وأنا بالكاد أستطيع التركيز فيما يقوله، أحاول الإمساك باللحظة التي حدث فيها كل هذا، ويتسارع عقلي مُنبهًا إياي: بعد قليل سيُمسك بيدكِ، ستنسين كُل ما اتفقنا عليه، لكنّي لا أعيره اهتمامًا وأنظر إليه وهوَ يتحدّث عن شيء ما يحدث في الجانب الآخر من العالم؛ أشعر أن كل القبلات التي حدثت في الواقع أو في السينما لا تكفي لهذا الحديث الشيّق عن عدد البلدان التي تسمّى "غينيا".. أجرّب قُبلة ثُمّ أخرى وعندي أملٌ أن واحدة منهن ستكفِي!

تقِف شخصيّاتي المختلفة بداخلي، تتبادل النظر وقد أسقِط في أيديها، ويبتسم قلبي راضيًا مشقوقًا إلى نصفين، فيما لا يملك عقلي إلّا أن يتمنّى أمنية قيس بن الملوّح: أن يَكونُ كفافًا.. لا عَلَيَّ وَلا لِيا.

المساهمون