عرب الأدب الهولندي

عرب الأدب الهولندي

26 أكتوبر 2015
شجيرات، فنسنت فان غوغ (Getty)
+ الخط -
ليست هولندا بلدًا كبيرًا، وليست لغتها من اللغات العالمية، مع ذلك فإنها مثل بلدان أخرى في أوروبا الغربية، تجذب باستمرار، ولأسباب عديدة، جماعات وأقوام من أصول مختلفة، قد يندمجوا إلى هذا الحد أو ذاك مع المجتمع الهولندي. وربما يبدو الأدب، السبيل الأوضح للنظر في أثر "اختلاط" مماثل. ففيه تتمظهر تبدلات الهوية. ها هنا إضاءة على كتّاب من أصول عربية يكتبون باللغة الهولندية.

يزيد عدد المتحدثين باللغة الهولندية عن 27 مليون نسمة، موزّعين بين هولندا وبلجيكا وسورينام وجنوب أفريقيا وإندونيسيا وغيرها. ويبدو المشهد الأدبي الهولندي، متأثرًا بهذا التوزيع الجغرافي، الذي حتّم "اختلاطًا لغويًا"، لو جاز التعبير، قوامه الأصول الأجنبية للعديد من الكتّاب، وبشكل خاص الكتّاب من الأصول العربية والتركية والسورينامية. فقد نجح هؤلاء في إثبات جدارتهم بالمكانة التي استحقوها اليوم على ساحة الأدب المكتوب بهذه اللغة الجرمانية، عبر العديد من إصداراتهم الأدبية في الرواية والشعر والمسرح.

إن نظرة سريعة إلى الساحتين الأدبيتين الهولندية والبلجيكية وحدهما، لن تغفل عن آذاننا الرنين العربي لأسماء عديدة؛ رمزي نصر ومصطفى ستيتو وعبد القادر بنعلي وحفيظ بوعزّة وجمال وارياتشي ورشيدة لمرابط وفؤاد العروي ونعيمة البزّاز وموفّق السواد وسواهم، ما أثرى ساحة الأدب الهولندي الراهنة، وضخّ فيها دماء ونكهات جديدة، رغم "أنف" السياسة. فبينما تتزايد وتتكاثر الاتجاهات اليمينية المتطرفة ليس في هولندا وحدها، بل في أغلب بلدان أوروبا، تتسع رقعة الليبرالية في الساحة الأدبية اليوم في أمستردام. ولعلّ اندهاشنا سيكبر أيضًا، حين نعلم أن غالبية الإصدارات الأولى لكثير من هذه الأسماء ذات الجذور العربية أو التركية، هي التي منحتهم التواجد المؤثّر الذي يملكونه اليوم على ساحة الأدب الهولندي الجديد، وخاصة أن العديد من هذه الإصدارات الروائية والشعرية، حاز أهمّ الجوائز الأدبية وأرفعها في هولندا وبلجيكا، وتصدّرت مؤلفات هؤلاء الكتّاب قوائم الكتب الأكثر مبيعاً على مدى أسابيع عدة في بروكسل وأمستردام. ويبدو أن نقّاد الأدب المكتوب باللغة الهولندية، قد بدأوا يتذوقون لغتهم من جديد عبر هؤلاء الكتّاب والشعراء، ليجدوا فيها نكهات عربية وروائح وأمزجة جديدة عليهم وعلى ذائقتهم اللغوية.

اقرأ أيضًا: مارسيل كوربرشوك، أنا أحد أبناء الثقافة العربية


قبل نصف قرن تقريبًا، وتحديدًا في عام 1964، بدأت كثير من الدول الأوروبية وعلى رأسها هولندا وبلجيكا وفرنسا وألمانيا، في الإعلان عن حاجتها إلى عمالة جيدة لتساهم في تشييد البنية التحتية وفي رفد الثورة الصناعية التي شهدتها القارة العجوز بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. كذا انتشرت حملات أوروبية واسعة لجلب هذه العمالة من تركيا ودول الشمال الأفريقي؛ المغرب والجزائر وتونس وغيرها. وكانت النتيجة وجود ثلاثة أجيال من ذوي الأصول العربية في هولندا وبلجيكا وألمانيا وفرنسا، "مندمجة" إلى هذا الحدّ أو ذاك، مع الثقافة الغربية، لكنّها حين اختارت طريق الأدب، قدّمت إلى قارئ اللغة الهولندية، نكهة عربية و"صحراوية"، تشي بمناخات إبداعية تعود أصولها إلى "ألف ليلة وليلة" وقصائد أبي نواس والمتنبي، فضلًا عن الأثر العميق للنص القرآني. فبدت تلك الكتابة "هجينة المنبت"، تنوس بين أصول الآداب العربية ومقامها في الآداب الجرمانية أو اللاتينية، الأمر الذي عدّه كثير من الكتّاب والنقّاد إثراءً للآداب المكتوبة باللغات الأوروبية، ومن بينها الهولندية.

في السطور الآتية سنقترب أكثر من أصحاب بعض هذه الأسماء ذات الأصول العربية، لنلقي الضوء على مكانتها وإنجازها الأدبي، ليتعرف القارئ العربي عليها، وأيضاً لتلتفت دور النشر العربية إلى ضرورة الاهتمام بترجمة هذه الآداب.


على عرش الشعر.. مصطفى ستيتو

ولد مصطفى ستيتو (Mustafa Stitou)، الذي تربّع (2009) على كرسي الشعر لمدينة أمستردام مدّة عامين، في مدينة تطوان المغربية سنة 1974، وهاجرت أسرته إلى هولندا وهو رضيع، لينشأ في مدينة ليليستاد الهولندية، ثم درس التاريخ والفلسفة في جامعة أمستردام، وكان في الثامنة عشرة من عمره حين حصد أوّل جائزة شعرية في مشواره الأدبي، وهي جائزة "الهجرة" عام 1992، عن نصه الشعري "قصيدتان إلى الميتين تقريباً"، ثم أصدر باكورته الشعرية بعد ذلك بعامين تحت عنوان "أشكالي" 1994، وما إن ظهرت حتى صرخ الشاعر الهولندي الكبير ريمكو كامبرت صرخته الشهيرة: "أخيراً شاعر!". وفور صدور المجموعة، تم ترشيحها لعدة جوائز أدبية مهمّة. وبعد أربعة أعوام يصدر ستيتو مجموعته الشعرية الثانية "أشعاري" عام 1998، ليحتل منذ ذاك التاريخ مكانة خاصة في الشعر الهولندي المعاصر، وتبدأ أبرز الصحف الهولندية في ضمّه إلى كتّابها المعتمدين، ومن أهمها صحيفة Vrij Nederland. كما أُدرج اسمه ضمن عدد من أسماء الشعراء الهولنديين الذين انتقتهم الملكة الهولندية بياتريس سنة 1999، لكتابة قصائد تخلّد أرواح الذين ماتوا من أجل الوطن. واختيرت قصائده لتنشر في أحد الدواوين التي صدرت تخليداً لروح الأمير الهولندي كلاوس زوج ملكة هولندا بعد رحيله.

اقرأ أيضًا: الهولندي وشغفه العربي


ويأتي عام 2000 ليقع الاختيار على مصطفى ستيتو ليكون أحد أعضاء لجنة تحكيم جائزة VSB الشعرية المرموقة، التي تعتبرها الأوساط الأدبية في هولندا وبلجيكا، أرفع جائزة تمنحها هولندا للشعر المكتوب في البلاد الناطقة باللغة الهولندية. وفي السنة ذاتها يصدر الناشر الخاص بستيتو مجلداً ضخماً يضم مجموعتيه الشعريتين الأوليين، وهو الإصدار الذي سرعان ما نفد في أقل من ثلاثة أسابيع من طرحه بالأسواق. وفي بدايات العام 2003، يصدر ستيتو مجموعته الشعرية الثالثة تحت عنوان "بطاقات بريدية وردية اللون كجلد الخنزير" عن دار نشر De Bezige Bij في أمستردام، وتقتنص المجموعة الشعرية اللافتة جائزة VSB الشعرية في دورتها الحادية عشرة سنة 2004، (تقدّر قيمتها بـ25 ألف يورو)، وجاء في كلمة لجنة تحكيم الجائزة التي نشرتها معظم الصحف الهولندية والبلجيكية آنذاك: "تضم هذه المجموعة الشعرية الفريدة عدداً من القصائد التي تتنوع في أشكالها وألوانها وطرق تفجير شعريتها، لتتناول طرق الحكي والسرد والدراما ومحاكاة الأصوات غير البشرية، تلك الأصوات التي تستمد معناها من وجودها في السياقات الشعرية التي يبنيها الشاعر بحرفية عالية، وغيرها من طرق الكتابة غير المطروقة في الشعر الهولندي المعاصر. فقصائد ستيتو توقفنا أمام جمل طويلة ومدورة تستمدّ شعريتها من الثقل التراجيدي الذي تحفل به، ولكنها دائماً تنتهي في شكل كوميدي بالغ السواد في سخريته المرّة من كل شيء، وكأن الشاعر يسخر من الضعف الإنساني نفسه الذي تفجره قصائده لدى القارئ".


بحصوله على هذه الجائزة الرفيعة، يبرز اسم مصطفى ستيتو كأحد أهم الشعراء الهولنديين الشباب، فالجائزة التي حصل عليها التي تمنح سنوياً منذ اثنين وعشرين عاماً، تضم في قائمة الفائزين بها العديد من الأسماء المهمة والمؤثرة في الأدب الهولندي، لعل من أبرزها الكاتب الفلمنكي البلجيكي هوغو كلاوس، الذي رحل عن عالمنا في مارس/ آذار 2008 بعد اختياره الموت الرحيم هرباً من مرض الزهايمر. هذه المكانة الأدبية التي احتلها ستيتو بحصوله على هذه الجائزة تؤكد عليها كلمة لجنة التحكيم في استطرادها الذي جاء فيه: "تحفل قصائد ستيتو بالكثير من الهويات الثقافية المتداخلة ببعضها، تارة في ارتباط وتآلف، وطوراً في صراع وجدل مستمرين. فنحن نجد حضوراً شفيفاً للثقافة الإسلامية إلى جوار حضور آخر ومواز للثقافة الهولندية الراهنة، في مزيج شعري ولغوي واحد. كما نجد قصائد كثيرة له تحفل بذكر "داروين" والاستنساخ. وإضافة إلى هذه المواضيع، نجد الشاعر محتفيًا بالحبّ والسخرية المريرة من الحياة والعالم والأشياء المنافية للعقل التي تحدث في راهننا اليوم، أي أننا في هذا الديوان نشاهد الحياة المعاصرة في كل تجلياتها".

اقرأ أيضًا: يون كالمان ستيفنسن، على الكاتب أن يكون متشككًا

بعد تسع سنوات من صدور المجموعة الشعرية الثالثة له، التي صدرت في خمس طبعات متتالية، يصدر ستيتو عام 2013 مجموعته الشعرية الرابعة تحت عنوان "معبد"، التي نالت جائزة Awater الشعرية الرفيعة في هولندا.

من خلال قراءة المجموعات الشعرية الأربع التي صدرت حتى الآن لمصطفى ستيتو، نجد أن مجموعتيه الشعريتين الأوليين تنشغلان بالتجريب وبتفجير السخرية والمأساوية من كل ما يحيط بالشاعر من مظاهر الحياة، لكنه على خلاف الشعراء العرب ذوي الأصول العربية، لا نكاد نلمح لديه الإرث الثقافي الثقيل لكونه عربياً يعيش بين ثقافتين مختلفتين، أو على حدي نقيض، هما العربية والهولندية، فهو يعتبر نفسه ابناً للثقافة الهولندية، صحيح أنه يضرب في الكثير من قصائده على وتر أنه أجنبي مقارنة بالهولنديين والأوروبيين، إلا أنه يسخر في الآن نفسه من الفكرة ذاتها التي يحاول اللعب عليها، مؤكداً في إحدى قصائده الطويلة، وعنوانها "ليس هناك وجود لشيء اسمه الأجنبي"، أنه يحيا في ثقافة واحدة، وإن كانت تستمد جذورها بداخله من الثقافتين العربية والهولندية. فهاتان الثقافتان في نظره تشكلان وحدة واحدة، لا وحدتين منفصلتين كما يريد الآخرون أن يروهما على الدوام.

في الديوانين الأخيرين له، حاول مصطفى ستيتو في قصائده التي يغلب عليها الطول، تقديم شكل شعري يستفيد بقوة في كثير من الأحيان من التراث الصوفي العربي القديم، في قالب هولندي اللغة والتعبير، فالشاعر يصبو لأن يُضفي اللغة الصوفية العربية القديمة على شخصيات قصائده الأوروبية في حياتهم اليومية السريعة. ففي قصيدته الطويلة "لن نفصل نورنا وظلمتنا معاً" التي يضمها ديوانه الثالث، يرصد عبر إحدى وعشرين فقرة شعرية، الكثير من الحالات والقصص وتواريخ الأشياء والموجودات المحيطة به، في شكل صوفي يمنح قصيدته شجناً وروحاً شعرية جديدة على اللغة الهولندية، من خلال تكرار جمل بعينها في سياقات شعرية مختلفة ومتغيّرة على الدوام، صانعاً إيقاعاً شعرياً عربياً في مجمل قصيدته. وربما تكون هذه الطريقة في تفجير شعرية القصائد لدى ستيتو هي التي دفعت ناشر ديوانه الثالث إلى أن يكتب على الغلاف الأخير كلمة قصيرة أنهاها بقوله: "أوّل شاعر هولندي من أصل مغربي"!


"أمين معلوف اللغة الهولندية" حفيظ بوعزّة


ولد حفيظ بوعزة (Hafid Bouzza) في قرية صغيرة على الحدود الجزائرية/ المغربية عام 1970 لوالدين مغربيين. ومنذ بدايته في النشر سنة 1996 عبر مجموعته القصصية "أقدام عبد الله"، امتلك حضوراً متميّزاً في المشهد الثقافي الهولندي، خاصة مع تعدد وتنوّع الأعمال الأدبية التي قدّمها في ما بعد إلى الساحة الأدبية الهولندية وجعلته في صدارتها، بدءاً من القصة القصيرة والرواية، مروراً بالمسرح والترجمة من اللغة العربية إلى الهولندية، وصولاً إلى مقالاته الأسبوعية في أبرز الصحف الهولندية. وبعد صدور مجموعته القصصية الأولى بعامين، أصدر بوعزة روايته الأولى "مومو" سنة 1998 وعمله المسرحي الأوّل "أولين" في السنة ذاتها. رسّخ هذان العملان مكانة بوعزة في الساحة الأدبية الهولندية، وبدأت أصداء اسمه تنتشر في البلد المجاور؛ بلجيكا، ليصدر بعد أربعة أعوام روايته الثانية "سالمون" منتصف 2002، التي رشحت لعدة جوائز أدبية مهمة، قبل أن تصدر روايته الأهم "بارافيون" في بداية 2004 لدى دار نشر Prometheus في أمستردام لتقلب حياته رأساً على عقب.

اقرأ أيضًا: العشاء الأخير، مصر بعد الثورة

ما إن صدرت الرواية حتى شرعت العديد من الملاحق الأدبية المهمّة في بلجيكا وهولندا، تتناولها بالنقد والتحليل "الاحتفائي"، إن شئنا الدقة. وسرعان ما رشحت "بارافيون" لنيل أرفع جائزة تمنح للرواية المكتوبة باللغة الهولندية وهي جائزة "البومة الذهبية" (25 ألف يورو)، ويتنافس عليها سنوياً كتّاب الرواية في هولندا وإقليم فلاندر البلجيكي المتحدث باللهجة الفلامانية، إحدى لهجات اللغة الهولندية. ورغم المنافسة القوية التي وجدها حفيظ بوعزة من العديد من الكتّاب الكبار، إلا أن روايته نالت الجائزة الرفيعة لتضع اسمه في مقدّمة أهم كتّاب الرواية في ساحة الأدب الهولندي. وبدأت الصحافة الثقافية والأدبية في بلجيكا وهولندا تطلق عليه لقب "أمين معلوف اللغة الهولندية"، بل واعتبر كثير من الآراء النقدية أن حصول هذه الرواية الفريدة على الجائزة، هو مؤشر واضح على أن إحياء الأدب الهولندي سيكون على أيدي هؤلاء الكتّاب الجدد من ذوي الأصول الأجنبية، وعلى رأسهم حفيظ بوعزة الذي: "استطاع أن يمزج بين خصائص الثقافتين العربية والهولندية ليصنع نسيجاً جديداً على الأدب الهولندي لم يسبقه إليه أحد".

في "بارافيون"، يرصد الكاتب هجرة أسرته من المغرب إلى هولندا عندما كان في السابعة من عمره، الرحلة التي قطعها بصحبة أمه وستة من أشقائه، حيث يرسم بتؤدة عالماً خيالياً، من خلال رصده للحياة في قرية من قرى الشمال الأفريقي يرحل عنها جميع رجالها إلى بلد أجنبي غير مسمّى، ولا يتبقّى فيها سوى طفل وحيد هو "بابا بالوك". من خلال شخصية هذا الطفل ومع المضي في عالمه الروائي الساحر، نكتشف شيئاً فشيئاً أن الكاتب ينصب لقرّائه فخّاً، فهو إنما يتخذ من حياة هذا الصبي متكأً لرصد حياة ثلاثة أجيال: الأب والجد والحفيد، فالثلاثة يحملون الاسم نفسه "بابا بالوك". لكأننا نطالع سيرة بوعزة نفسه، ولا سيما إذا عرفنا أن الوجود العربي الراهن في هولندا يمتد إلى ثلاثة أجيال، وأن بوعزة وأقرانه يمثلون الجيل الثاني.

يمكن الزعم أيضاً أن "بارافيون" هي رواية عن هجرة الجيل الأوّل من العرب إلى هولندا، ورصد لحياة الجيل الثاني فيها، وتشديد على ذوبان الجيل الثالث في هذا المجتمع، الذي أصبح مجتمع بوعزة الذي لا يعرف سواه. هذا كلّه في قالب سحري تحرص عليه الرواية التي استمد حفيظ عنوانها من سوء تفاهم يقع فيه أبطاله؛ حين يظن أهالي القرية العربية التي يحكي عنها، - لا يحدد الكاتب موقعها، بل يشير فقط إلى أنها من قرى الشمال الأفريقي - أن كلمة "بارافيون" التي تحملها مغلفات رسائل الرجال الذين هجروا القرية، ما هي إلا اسم البلد الذي هاجروا إليه، من دون أن يجدوا من ينبّههم إلى أن كلمة "بارافيون" في أصلها الفرنسي تعني "بريد جوي" Par avion. من هنا ينسج بوعزة عالمه المبني على سوء فهم، من خلال تقنيات سحرية تذكّرنا أحياناً بقصص ألف ليلة وليلة، حيث يسافر رجال القرية إلى "بارافيون" - التي نستطيع اعتبارها معادلاً موضوعياً للعاصمة الهولندية أمستردام - فوق بسط سحرية طائرة، كتشبيه يتفق مع ما هو كامن في عقول أهالي القرية الريفيين عن الترحال من مكان إلى آخر.


ولع بوعزة بعوالم السحر وهو على حد قوله "أنا ابن شرعي لتأثّري الشديد بحكايات ألف ليلة وليلة. فعندما بدأت القراءة بالهولندية فوجئت بأن جميع الكتّاب الأثيرين لديّ، كورتاثار ونابوكوف وماركيز وسواهم، متأثرون بهذا الكتاب السحري العربي القديم، وكان أوّل كتاب عظيم شغفت به ونبّهني الى أهمية "الليالي" هو "كتاب الألف" لبورخيس. عندما قرأته وجدت حكاية ابن طارق الذي يملك مرآة يرى فيها العالم كله. وقتذاك لم أكن أفهم كلمة واحدة في اللغة العربية، لأني تعلّمت الهولندية أولاً، فكنت أذهب إلى إحدى المكتبات المجاورة لمنزلي في أمستردام، وأترجم كل كلمة من "ألف ليلة وليلة" إلى اللغة العربية، وساعدتني شقيقتي الكبرى في تعلّم النحو والصرف. وهكذا صرت أترجم كل ما أقرأه بالعربية إلى الهولندية لكي أفهمه. فتعلمت العربية، التي درستها بعد ذلك في جامعة أمستردام عاماً واحداً".

يعتبر بوعزة أن الهولندية لغته الثانية بعد العربية، لكنه في الوقت ذاته يعتبر نفسه كاتباً هولندياً، وعن هذه المفارقة يقول: "أكتب باللغة الهولندية وأفكّر بها، لأني تعلّمتها قبل أن أتعلّم العربية. إذ حين بدأت قراءة العربية، كنت في السادسة عشرة أو السابعة عشرة. أؤكد دائماً أني كاتب هولندي، لأني لا أريد للحركة النقدية في هولندا أن تنظر إليّ على أني كاتب مغربي يكتب بالهولندية، فأنا لا أكتب رواياتي بالعربية ثم أترجمها إلى الهولندية. أفكر باللغة التي أكتب بها، وجنسية الكاتب هي لغته التي يكتب بها وليس الأرض التي جاء منها. ولدت لأسرة مغربية هاجرت إلى هولندا، لكني عشت وتربيت في هولندا التي لا أعرف لنفسي وطناً سواها. دائماً أواجَه بهذا السؤال في وسائل الإعلام الغربية، وأحياناً كثيرة لا أعرف كيف أردّ، لأني مزيج من الثقافتين، ولا أستطيع أن أحدد أيّ الأجزاء بداخلي من المغرب وأيها من هولندا".

قبل عام من الآن، عاد اسم حفيظ بوعزة إلى الصدارة من جديد، بعد صدور روايته الأخيرة "Meriswin"، التي أثارت من الضجة والنقاش في الأوساط الأدبية الهولندية والبلجيكية منذ صدورها في 2014 ما يكفي ليؤهلها لتحقيق الكثير من المبيعات. وكان السرّ في هذا الانتشار السريع، موضوع الرواية الذي يمكن وصفه بـ"الفضائحي". حيث يعالج الكاتب موضوع إدمانه الشخصي على الكحول والمخدرات لسنوات طويلة، واقترابه الحثيث من الموت بعد إصابته بنزيف حاد، وهي التجربة التي أدخلته المستشفى ثلاث مرات، واتخذها بوعزة لتكون عالماً فانتازياً وآسراً في روايته الأخيرة، التي ترصد كيف تحوّل من شاب وسيم وكاتب ناجح إلى مجرد رجل في الـ45 من عمره، يعاني من تليّف حاد في الكبد، ومن وزنه الذي ازداد بشكل كبير جرّاء أزماته الصحية الأخيرة. ربما نفهم، على ضوء هذه المعطيات، ابتكاره لراوٍ يهلوس بشكل دائم، ومعه كاتب يكتب خلفه عن المرأة التي أحبّها، وعن بيته الصغير في قلب أمستردام، وعن المقاهي والبارات التي قضى فيها الكثير من الوقت في حالة من الغياب المتعمّد عن الواقع المحيط به، وعن اللون الأسود الذي لا يرضى سواه لونًا يرتديه، وعن ذكريات مراهقته في شوارع أمستردام التي يستدعيها بعتب مراهق، ولكن أيضاً بمحبة كهلٍ يودّع سنوات عمره التي مرّت سريعاً من بين أصابعه.


"يحمل منفاه أينما رحل"؛ عبد القادر بنعلي


تتشابه نشأة عبد القادر بنعلي (Abdelkader Benali) مع نشأة مجايله حفيظ بوعزة، حيث ولد أيضًا في المغرب ورحل طفلًا إلى هولندا، وأصدر عمله الأوّل في السنة ذاتها التي أصدر فيها بوعزة عمله الأوّل. إلا أن بنعلي يصغر بوعزة بخمس سنوات (ولد عام 1975 بقرية بني شيكر، إحدى قرى إقليم الناظور المغربي، وهي أيضاً مسقط رأس الكاتب المغربي محمد شكري)، كان عبد القادر بنعلي في الرابعة من عمره حين رحل مع والديه إلى هولندا ليستقروا في مدينة روتردام، حيث كبر كطفل أمازيغي لعائلة مغربية وسط محيط متعدد الثقافات واللغات، وبدأ رحلته في عالم النشر منذ كان في الحادية والعشرين من عمره، حين أصدر أولى رواياته "حفل زفاف على الشاطئ" سنة 1996. وكعادة الأعمال الأدبية الأولى، كانت أحداث الرواية ملاصقة لما عايشه بنعلي في واقعه اليومي، فجاءت روايته لتسرد تجربة جيله بأكمله؛ الجيل الثاني من أبناء المهاجرين المغاربة الذي نشأ في أرض جديدة ولغة مغايرة عن التي يتحدّثها الأهل في البيت. لكن بنعلي، مثله في ذلك مثل أغلب أبناء جيله من المهاجرين، حاول أن يقدم في روايته الأولى دفاعاً مستميتاً عن كونه هولنديًا وعربيًا في آن معًا، فالهولندية هي لغته التي يكتب بها خصوصية كونه من أصول عربية. لفتت الرواية الأنظار بقوة إلى كاتبها الشاب، ما أهّلها في العام التالي 1997 للفوز بجائزة "Geertjan Lubberhuizen" كأفضل عمل أدبي أوّل، ثم رشحت الرواية لنيل جائزة ليبريس الرفيعة في السنة ذاتها، وفي منافسة مع من؟ مع أكبر وأشهر كتّاب اللغة الهولندية الروائي والشاعر البلحيكي هوغو كلاوس، التي نالها عن جدارة حين ذاك. وحين ترجمت الرواية إلى اللغة الفرنسية، فازت بجائزة أفضل عمل روائي أجنبي في فرنسا سنة 1999، كما ترجمت "حفل زفاف على الشاطئ" إلى عدة لغات، منها الإنجليزية والإسبانية والألمانية واليونانية والعبرية والإيطالية.



بعد هذه الرواية الأولى الناجحة، عكف بنعلي على إصدار ثلاثة كتب بعيدة عن الرواية، فأصدر في 1999 مسرحية "الحزين"، ومجموعة قصصية بعنوان "رسائل من مدينة التوابل" في 2001. وفي عام 2002 أصدر مسرحية بعنوان "ياسر"، ثم أصدر روايته الثانية "الانتظار الطويل" في 2003، التي تحكي في قالب خيالي عن جنين في بطن أمه يرفض أن يولد، لأنه يعلم أن العالم مكان غير مؤهل لاستقباله، وكأن كاتبنا يرصد صراع الأجيال والثقافات من خلال هذا الرفض وهذه البيئة غير المؤهلة لاحتضان الجديد والمختلف. قوبلت الرواية الثانية لبنعلي باحتفاء كبير، دفعها فوراً إلى المنافسة على نيل جائزة ليبريس من جديد (تعادل جائزة الغونكور الفرنسية وقيمتها المادية 50 ألف يورو)، وهذه المرة تكون الجائزة من نصيب بنعلي عن روايته التي صنّفها عدد من النقاد على أنها "إحدى لآلئ الأدب الهولندي الحديث"، كما أشارت لجنة تحكيم الجائزة إلى أن "إسناد دور الراوي للجنين في الرواية، فيه الكثير من الطرافة والفرادة". وبحصولها على هذه الجائزة الرفيعة، بيعت من الرواية أكثر من 60 ألف نسخة في أشهر قليلة، وكتبت عنها الصحف تقول: "رواية يكتبها رجل يحمل منفاه بداخله أينما رحل".

يتقن بنعلي العديد من اللغات، من بينها الأمازيغية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية، إلا أن العربية ليست من بينها، وإن كان قد قطع شوطاً كبيراً في تعلّمها سواء بجهوده الذاتية أو برحلاته المتعددة إلى العواصم العربية، ومن بينها بيروت، التي سافر إليها أكثر من مرة، حتى صادف وجوده هناك شهر يوليو/ تموز 2006، حين شنت إسرائيل حربها على لبنان بعد خطف "حزب الله" لجنديين إسرائيليين. كان بنعلي يعمل في بيروت على مشروعه الروائي الجديد عندما كانت إسرائيل تلقي بقنابلها فوق سماء لبنان، وبخلاف الآخرين الذين سارعوا إلى الرحيل، قرر بنعلي أن يمدّد إقامته رغم مطالبة أقربائه له بالمغادرة الفورية، وهو ما أثمر عن كتابه البديع "رسائل من مدينة محاصرة" (أمستردام 2006)، الذي دوّن فيه يومياته في بيروت أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان، مبرراً بقاءه في ثنايا كتابه بقوله: "كانت الحرب بالنسبة لي ككاتب فرصة لن تعوّض، ذلك لأني كثيراً ما قرأت عن الحروب، لكنّي كنت أحياها وألمسها عن قرب للمرة الأولى في حياتي". يكتب بنعلي وقائع يومياته في بيروت بحسّ الروائي، من دون أن يتخذ موقفاً معيّناً ينحاز فيه إلى فريق دون آخر، وهذا ما يوضحه قائلاً: "لم يكن عليّ أن أنحاز إلى أحد الطرفين، لم أشعر أني ككاتب مطالب بفكرة الانحياز، حاولت في يومياتي أن أصنع حكاية لمدينة وجدت نفسها بين ليلة وضحاها فريسة لجيش يدمّرها بترسانته الحديثة والمتطورة من الأسلحة".

يعتبر عبد القادر بنعلي من أغزر أبناء جيله إصداراً للأعمال الأدبية، فله الآن تحت اسمه ما يزيد عن العشرين مؤلفاً في الرواية والمسرح والشعر وأدب الرحلات وصولاً إلى كتب الطبخ، فبعد كتابه "رسائل من مدينة محاصرة"، أصدر روايته "فيلدمان وأنا" في 2006، ثم توالت أعماله، ومن بينها: "الفنان الأبدي" الذي كتبه تكريماً لعميد الأدب الهولندي هاري موليش وصدر في 2007، رواية "عداء الماراثون" 2007، رواية "صوت أمي" 2009، نوفيلا "متحف الأحباء المفقودين" 2009، رواية "عداء الرمل" 2010، كتاب "الطريق إلى مدينة كاب" الذي وثّق فيه رحلته إلى جنوب أفريقيا 2010، "شرق = غرب، رحلات في العالم العربي والغربي" 2011، وأخيراً روايته "ولد سيئ" في 2013.

المساهمون