طفل وليد عند باب مسجد

27 يونيو 2020

(عبدالله الحريري)

+ الخط -
وقعت في إدلب، قبل مدة قصيرة، حادثةٌ يمكن اعتبارُها عادية، لأنها تتكرّر في كل زمان ومكان، أن أحد الرجال عثر، في أثناء خروجه من صلاة الفجر، على طفلٍ وليد عند باب المسجد، فأخذه وتبنّاه، وهذا أمرٌ يستحق عليه الشكر والثناء.. ولكن ما حصل، بعد ذلك، أن القضية طُرحت على "بساط فيسبوك"، وتلقى الرجل ما لا يحسب الحاسب من اللوم والتوبيخ، بينما قال له عدد قليل من الناس: أحسنت صنعاً يا أخي. 
قديماً، كان في مدينة إدلب رجل واحد يقوم بوظيفة "المفتي"، وكان يُشترط بمن يتولّى هذا العمل أن يكون عالِماً بالدين، وملمّاً بأمور الحياة الدنيا، وله مركز اجتماعي وعائلي مرموق، بدليل أن "آل كيالي" كانوا يتوارثون هذه الوظيفة، ويوجد في عائلتهم فرع يسمّونه "بيت الكيالي المفتي"، ومنه ظهر الأديبان حسيب ومواهب. وكان المفتي، عندما تُعرض أمامه قضيةٌ ما، يعمل على استيعابها بذكاء، ويتفهم الظروف الاجتماعية المحيطة بها، ويحسب حساب انعكاساتها المحتملة على أهل المدينة، ثم يعطي فيها حكماً معتدلاً لا يتعارض مع الدين، وفي الوقت نفسه، يُرضي الجو الاجتماعي العام. وأما اليوم، فمع الأسف الشديد، أصبح الإفتاء قضيةً فيسبوكيةً خالصة، ومَن يتقدّم ليصدر فتوى على حائط فيسبوك ليس بالضرورة أن يكون حاملَ شهادة جامعية في الشريعة، أو في أي اختصاص آخر، ولا يشترط فيه أن يكون متديناً، أو ورعاً، أو .. أو .. بل يكفيه أن يدخل إلى محرك البحث، "غوغل"، ويسأل: ما حُكم العثور على لقيط؟ وما حكم التبني في الإسلام؟ ويأخذ النتائج التي يقدمها المحرّك وينقلها بطريقة "copy – paste" إلى مكان النقاش، وتكون هذه خطوة أولى، يُتبعها هذا المفتي العجيب بخطواتٍ يدافع فيها عن وجهة النظر التي نقلها من محرّك البحث، ويقارع بها، ويحاجج، ويضطر، في بعض الأحيان، أن يشتم مَن يماريه في صحتها، ويصفه بأنه "بلا أصل"، والدليل عطفه على الوليد اللقيط، الـ ... "ويشتم الطفل بالمَعِيّة"!
انخرط كاتبُ هذه الأسطر في النقاش حول الطفل، وانتزع من جماعة "copy - paste" اعترافاً صريحاً بأن الطفل لم يرتكب في قدومه إلى الحياة إثماً، ولا في إلقائه عند باب المسجد، وحاول أن يأخذ منهم اعترافاً ثانياً بأن الرجل والمرأة اللذين خلفاه هما الوحيدان المسؤولان عن هذه البلية، ولكنهم رفضوا إدانة الأب، واقتصروا على إدانة الأم باعتبارها المصدر الأساسي لكل الشرور والآثام في العالم.. قلنا لهم: طيب، ندين المرأة التي ألقت وليدها عند باب المسجد، ولكن، يجدر بنا أن نشكر الأسرة التي تبنّته.. وعند هذه النقطة، تحول كاتب هذه الأسطر إلى طرف رئيسي في الخصام (تقصدتُ استخدام كلمة خصام، لأن السادة المتدخلين في مثل هذه القضايا لا يحبون مصطلح "حوار"، ولا يستخدمونه إلا في بعض الأحايين، وقتاً قصيراً فقط).. ولدى احتدام الخصومة، عثر أحدهم على "الضربة" التي يسمونها في عالم الملاكمة "القاضية"، فقال بكل وضوح: أنت، يا خطيب بدلة، مستعدٌّ أن تتبنى هذا الولد وتسجله على اسمك؟
كان السياق الانفعالي للخصومة يقتضي أن يكون الرد كلمة واحدة: أتشرّف. ولكن التفكير يقود الإنسان إلى مطارح أخرى، وهي أن كلمة "أتشرف" لا تحمل معناها الحقيقي، لأنها تقال لكل مَن يكتب لك على الخاص: شكراً لقبول الصداقة، ويقولها الخاطبون لأية أسرة يطلبون ابنتها: لنا الشرف أن نطلب يد كريمتكم، وبعد أقل من سنة يدبّ الخلاف بين الأسرتين، وكل منهما تنشر شرف الأخرى على سكّة حلب. خلاصة الكلام أن أسرتي (بيت بدلة) فيها الطيب، والآدمي، والمحترم، وفيها الظالم، والمجرم، والنصاب. وعليه فإن الطفل الوليد الذي عثر عليه عند باب المسجد، البريء، النظيف، الذي لم يرتكب أية جريمة أخلاقية، يشرّفني فعلاً، وليس قولاً، ويشرّف عائلتي.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...