ضد التمييز: مقدونيا والأسقف ونساء القهر

ضد التمييز: مقدونيا والأسقف ونساء القهر

08 مارس 2019
بيترونيا في مقدونيا (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
السلطة والمجتمع والدين، العادات والتقاليد، البنية الذكورية، وغيرها من المعاني التي تحملها تلك المفردات، تُشَكِّل قِوام "الله موجود، اسمها بيترونيا"، للمخرجة المقدونية تيونا شتروغار مَتِيفْسكا (1974). قبل مشاركتها به في المسابقة الرسمية للدورة الـ69 (7 ـ 17 فبراير/ شباط 2019) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي"، مرّت مَتِيفْسكا في "بانوراما البرليناله" ثلاث مرات. جديدها هذا، الجيّد الصُنعة إجمالاً، هو الروائي الخامس لها.

في "الله موجود، اسمها بيترونيا"، قدّمت مَتِيفْسكا ما يصعب تصنيفه في الإطار الضيق لـ"النسوية". صحيحٌ أن الفيلم "نسائي الانحياز" بامتياز. لكن، في الوقت نفسه، لا يغرق في ذلك الفخّ إلى حدّ التسطيح أو المُباشرة أو الخطابية. فالمخرجة المقدونية تتناول قضية المرأة من جوانب مختلفة في يوغسلافيا السابقة، أو مقدونيا حاليًا، علمًا أنه ينسحب على النساء ومشاكلهنّ في بقاع مختلفة من العالم.

تمحورت القصّة حول قضية دينية بحتة، بتشعّباتها في الحياة اليومية، وجذورها التاريخية، ضمن عادات المجتمع المقدوني. هنا، برز ذكاء تيونا شتروغار مَتِيفْسكا وجرأتها في اختيار قصّة ذات بعد محلي، تنطلق منها إلى ما هو أكبر. فالدين والعادات المرتبطة به أمور متغلغلة ومُتشعّبة في صميم الحياة اليومية للبشر، بصرف النظر عن كُنْه هذا الدين أو أماكن تواجد البشر، وممارستهم الطقوس والعادات المرتبطة به. لذا، كان تناول العادات الراسخة، الممارسة باسم الدين، نقديًا، بالمنطق والعقل تارة، وبالسخرية والفكاهة تارة أخرى، وهذا موفّق سينمائيًا للغاية، إذْ انسحب الأمر على أشياء أخرى عديدة، غير الدين وعادات المجتمع المقدوني، أكانت العادات ذكورية أو غير ذلك.

مع ذلك، فالمخرجة مَتِيفْسكا وإيلما تاتاراجيك (شريكتها في كتابة السيناريو) لم تُعمِلا معاولهما ضد الدين، أو بالأحرى، ضد العقيدة الأرثوذكسية السائدة في مقدونيا، إذْ واجه السيناريو أساسًا ممارسة التمييز والقهر عامة، وإن ترسّخت تلك الممارسات باسم الدين أو التقاليد منذ مئات السنين. القفز في النهر في 19 يناير/ كانون الثاني من كل عام، بمناسبة عيد الغطاس الأرثوذكسي، والعثور على الصليب، امران منتميان إلى طقوس وعادات دينية مقدّسة في مقدونيا. ومنذ نشأتهما، يقتصر هذان الأمران على الرجال فقط. العثور على الصليب، وفقًا للاعتقاد السائد منذ قرون، يجلب الحظ طيلة العام لمن يعثر عليه.


ذات مرة، تعثر فتاة عادية وبائسة على الصليب. مشاركتها، التي تحدث صدفة، تقلب الأمور كلّها رأسًا على عقب. مشاركة تكسِر القواعد، وتشلّ العقول الجامدة المتحجّرة، فتجعلها عاجزة عن التفكير أو الفعل. بيترونيا (زوريكا نوشيفا)، تبلغ 32 عامًا، متخصّصة في الدراسات التاريخية. عاطلة عن العمل منذ تخرّجها قبل أعوام عديدة. لا خبرة لها في أي شيء. جسمها بدين وضخم وغير جذّاب. صحيحٌ أن هناك براءة على وجهها، إلا أنها ليست جميلة أو مغوية. هذه المواصفات مقصودة من مَتِيفْسكا بالتأكيد. الجانب الجسدي والشكل مُكَّمِلان للصورة العامة التي تُقدِّمها المخرجة.
مع المَشاهد الأولى، ينكشف الروتين في حياة بيترونيا. مقاومتها الاستيقاظ، وارتداء الثياب، والخروج من حجرتها، تدلّ كلّها على هذا، وأيضًا عبر إلحاح والدتها اللجوجة المتسلّطة على الالتزام بموعد مقابلة من أجل عمل، دبَّرتها لها مُستعينة بإحدى صديقات العائلة. تلحُ والدتها المُتشدّدة فاسكا (فيوليتا سابكوفسكا)، وتضغط عليها بشتّى السبل للحصول على تلك الوظيفة، وإنْ تطلّب الأمر الكذب بخصوص الخبرات، والأعمال السابقة، وعمرها الحقيقي.
في المقابل، أظهرت مَتِيفْسكا والد بيترونيا بصورة تناقض صورة والدتها تمامًا. الأم هي الآمر الناهي في المنزل، بينما الأب مغلوب على أمره. فهو طيب ومسالم وعطوف. إذًا، لا علاقة للهيمنة الأبوية أو الذكورية بأي شيء هنا، بل بالهيمنة عامة. هذه جزئيّة تُحسَب للمخرجة. بالإضافة إلى أن الفيلم، إجمالاً، ليس فقط عن بيترونيا، بل عن القهر بمعانيه كلّها، متجلّيًا في أنصع صوره على المرأة.

على مضض، ترضخ بيترونيا وتذهب لإجراء المقابلة، فيُعلِّق صاحب العمل على مظهرها ومؤهّلاتها، قائلاً إنها ليست جديرة بالتحرّش بها ولا بإقامة علاقة معها. هذا دافع لها للهيام على وجهها في طرقات المدينة، فتصل إلى النهر، غير عابئة بل غير منتبهة إلى ما يحدث بعيدًا. تقفز في النهر، لا بغرض الانتحار أو العثور على الصليب، فهي تحاول إثلاج روحها أو إيلام جسدها ومعاقبته. صرخة اعتراض ترتفع. سريعًأ، تستوعب ما يحدث حولها. صدفةً، تجد الصليب قريبًا منها. تلتقطه وترفعه معلنة عن عثورها عليه. يحتجّ الرجال ويخطفونه منها. لكن الأسقف يجد نفسه مُرغمًا على الاعتراف بأنها هي من عثر عليه، فيُجبر الرجال على إعادته إليها، رغم الحرج البالغ، وصرخات الاعتراض، والذهول.


مع عودتها بالصليب إلى المنزل، واكتشاف والدتها الأمر، يتبيّن أنْ ليس الرجال فقط من يطمعون به، إذْ تنشب معركة عنيفة بين بيترونيا ووالدتها، تصل إلى الركل والاشتباك بالأيدي. سريعًا، تأتي الشرطة لاصطحاب الفتاة إلى المخفر. هناك عار لحق بالبلدة. القانون والكنيسة المُحرجان يواجهان معًا مأزقًا كبيرًا، خصوصًا بعد أن بثّت المحطات التلفزيونية الخبر. جرت محاولة لاتهامها بالسرقة، أو لإنكار وجودها في النهر، لكن تسجيلات عديدة، رصدت الحدث، أثبتت ما جرى. وأمام تلك الفضيحة، يظهر عنف الرجال، غير القادرين على تقبّل الأمر، كما يظهر تحايل الشرطة، وحرج الأسقف. يبدأ ضغط القانون، ممثلاً برئيس الشرطة، ليس فقط على بيترونيا، بل على الأسقف نفسه أيضًا لحلّ المشكلة. التهديد الضمني يغدو صريحًا، لولا الضمير اليقظ والتديّن السليم للأسقف.

رغم الاستهجان والمشاورات والتحدّيات والامتهان والتحقيقات الرسمية والمُهَادَنة، تأبى بيترونيا الاستسلام. تبيت في المخفر، وتتعرّض لمختلف أنواع الإذلال والأذى، لكن التحدّي أكبر. هي ليست متديّنة، والصليب لا يعني شيئًا لها ولا يُمثِّل شيئًا لها. لا تؤمن بالحظّ المزعوم، ولا تعتقد به بالنسبة إلى بائسة مثلها. رغم ذلك، تُعاند وتتشبث بحقّها، بصرف النظر عن قيمة الصليب وما يمثّل. لعلّها تريد "ضرب" المجتمع وأفراده، الذكور منهم خصوصًا. أو لعلّه التشبّث ـ لمرة أولى وأخيرة ـ بحقّها في شيء حصلت عليه بجهدها، وباتت تملكه في الحياة. الأكثر إثارة، كامنٌ في رد فعلها الأخير، بعد إقرار الجميع بحقها في امتلاك الصليب، وتركهم إياها تمضي به. رد فعلها يعني الكثير. هي تغيّرت فعليًا، ولم تعد كما كانت سابقًا: لقد فازت في معركتها الصغيرة.

دلالات

المساهمون