صرخة ميلاد

صرخة ميلاد

17 ديسمبر 2014
+ الخط -

مرت، قبل أيام، ذكرى ميلاد ابنتي الصّغرى، والتي وضعتها مع بداية انتفاضة الأقصى. وبالمصادفة، كنت قد وضعت ابنتي البكر في أوج انتفاضة الحجارة، وقد تصادف موعدا ولادتهما مع حلول شهر رمضان، فوضعت الكبرى في فجر أحد الأيام الكثيرة التي كان يفرض فيها منع التجول على مناطق قطاع غزة، وكان الاحتلال يمنع المواطنين من الخروج من بيوتهم، إلا في حال وصول سيارة إسعاف؛ لنقل مريض أو متوفى، ولم تكن سيارة الإسعاف تسلم من تفتيش الجنود، حيث أوقفوا السيارة التي عادت بي من المستشفى إلى البيت، وأطلّ جنود برؤوسهم داخلها؛ ليتأكدوا من عدم حدوث عملية تهريب لمقاومين أو أسلحتهم، فقد كان رجال المقاومة يتفننون في الاختباء وإخفاء السلاح، إلى درجة أن يتنكروا في ملابس النساء.
حين أطلّ الجنود ورأوا مظهري الواهن، فيما ترقد الصغيرة التي أبصرت النور منذ ساعة في حضن الجدّة، تحدث جندي مع زملائه بالعبرية التي أجيدها، وقال: غدا يكبر هذا المولود ويقذفنا بالحجارة، فرددت عليه بعبرية سليمة، وأنا أبتسم: إنها أنثى، فأجابني ضاحكاً ومتعجباً: ربما تنجب من يزيل دولة إسرائيل عن الوجود، وسمحوا بعد ذلك للسيارة أن تكمل طريقها.
كانت الصرخة الأولى لابنتي الصّغرى مع موعد آذان المغرب، ومع زغاريد نساء في تشييع شهداء سقطوا في محيط المدينة، التي التفت حولها المغتصبات الصهيونية كالأفاعي، بعد أن ابتلعت جزءاً من أراضيها.
وهكذا، كانت صرختا ميلاد ابنتيّ لا تنسيان؛ لتنضم إلى صرخات الميلاد المميزة لأطفال شعب ما زال يعاني من العذاب والقهر والظلم والتشرد، فعندما أمعن الاحتلال في إذلال أهل غزة  في أثناء انتفاضة الأقصى، عمد إلى تقسيم القطاع الضيق المساحة إلى ثلاثة أقسام، ووضع عند مدخل كلّ قسم حاجزاً من الإسمنت والدبابات والآليات والجيبات العسكرية، ولم يكن يترك سوى مساحة تكفي لعبور سيارة واحدة، عدا عن الإذلال الذي كان يذوقه الفلسطينيون من الوقوف ساعات طويلة، أو اغلاق الحواجز أياماً ممّا يعيق التنقل بين المدن، فكثيراً ما وضعت النساء أطفالهن على الحواجز، فكن يطلقن أسماء تحمل معاني تشير إلى تلك الطريقة المهينة في الوضع.
وفي أيام منع التجول في أثناء انتفاضة الحجارة، كانت حالات الولادة تتم في البيوت، غالباً بسبب منع التجول، ومداهمات الجنود المستشفيات حتى يصلوا إلى أقسام التوليد، بحثاً عن المقاومين الذين يلقون الحجارة وقنابل المولوتوف، ويطلق على المولود اسم الشهيد الذي سقط في ذلك اليوم تخليداً لذكراه، كعادة دأب عليها أهل غزة.
وظلت  صرخة ميلاد أطفال فلسطين متميزة، عابقة بالألم المغموس بروح التحدّي والإصرار على البقاء، ففي العدوان على غزة، أخيراً،  وضعت النساء الحوامل أطفالهن في مدارس ومراكز الإيواء،  كما وضعت  18 امرأة أطفالهن في منازلهن في ظروف قاسية، فيما سجلت 30% من حالات الولادة المبكرة مقارنة بالأشهر السابقة، وسُجلت نحو 14% من حالات وفيات المواليد بسبب إصابات الأمّ الحامل، ونقص المعدات الطبية واستنشاق الغازات السامة. وزاد عدد التوائم (44 توأما). ومع ذلك، لم يتوقف الآباء عن اختيار أسماء مواليد الحرب التي تواكب الحدث، فأطلق أحدهم على مولودته اسم "غزة تنتصر".
قبل النكبة، وضعت جدّتي أحد أولادها، بينما كانت تساعد جدّي في فلاحة أرضه، عندما تدحرج الوليد من رحمها على تربة الأرض الطيبة، وسقط آخر ميتاً في طريق هجرتها من قريتها سيراً على الأقدام نحو غزة، ووضعت آخرهم في أحد أيام العام 1950 الذي تقدّم فيه جدّي لفحص النظر السنوي، وكان موظفاً في السكة الحديد، وحين نجح في الفحص، وعاد فرحاً مستبشراً باستمرار عمله، سمّى مولودته "نجاح"، تيمناً بها، وبأن الرزق سيستمر مع قدومها.
 

 

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.