صحراؤنا الدافئة

02 ابريل 2015
+ الخط -
كان أبي الثمانيني ينحني بحماسة وانبهار على حاسوب حفيده، وهو يحاول، بما تبقى من نظره، فحص طلبات الإضافة التي وصلت إليه من معجبين ومعجبات. منذ نصف ساعة، صار لأبي حساب فيسبوكي، وصار لأمي السبعينية سبب إضافي مقنع لمعركة صغيرة مع زوجها، معلم الرياضيات المتقاعد، والشاعر العمودي الذي يؤمن بأنه بالشعر العمودي الملتزم وحده تحافظ الأمة على أناقتها الروحية ومجدها التليد. أجلس، الآن، في منتصف المعركة التي نشبت للتو بين أمي وأبي، طوّح أبي بالحاسوب المحمول، وطلب من حفيده بغضب إلغاء طلبات الإضافة الجديدة التي وصلت إليه من أقارب وأصحاب، إناثاً وذكوراً. تصاعدت ثورة أمي (روح ازرع الفلفلات بدال ما انت قاعد زي لولاد الصغار قدام الفص بوك).
ابتسم الحفيد الماكر، ابن الصف السابع، ابتسامة الحائر بين ثورتي جديه. هدأت الثورتان، وذهب كل إلى مكانه، أمي إلى المطبخ، وأبي إلى حديقة البيت الصغيرة ليزرع الفلفل. وتموضع "اللابتوب" براحة في حضن الحفيد الذي غرق في انشغالاته.
لم تترك وسيلة التواصل الاجتماعي هذه أحداً من دون أن تغوي لهفته، وتسجن شغفه، وتكسر وجه وقته، وتعشش في بذور هواجسه، حتى الذين رفضوا هذه الوسيلة، واعتبروها أداة تشتت نفسي ومرآة وحشة داخلية، وطريقة تشويه للإحساس. كانوا، في رفضهم هذا، قد تماهوا مع وجودها، وانتصروا لجبروتها في لاوعيهم. رفضهم لها، أيضاً، هو طريقة أخرى لهذه الأداة، في إثبات وجودها وقدرتها على التخويف والتهديد. ولكن، ليس كل هذه الأداة شراً، إن فيها من الفرح والدهشة والجمال والنبل أضعاف ما فيها من المكائد والحقد والأذى، وهذا ما جعلها قابلة دوماً للمديح وللذم، والغريب أن المادحين والذامين على صواب. صار "فيسبوك" عنوان مرحلتنا، وأسلوب زمننا في التعبير عن ذاته أو الارتطام مع أو في ذاته.
شئنا أم أبينا (هكذا نقول لأنفسنا في لحظات الحكمة السميكة) علينا أن نتعامل مع هذه (الورطة) الحضارية بأسلوب عملي وواع، يأخذنا إلى أقصى المعرفة، ويحمينا من غليان العاطفة ومتطلبات الجسد. لكن، تبين أن ذلك صعب جداً، صار البحث الذهني العميق المتعب، عن فوكو ونظرياته مثلاً، يتطلب (كاستراحة ذهن مكدود، أو كاكتمال إنساني مشروع)، احتراما لحق ضاغط لا راد له في آخر الليل، حق للجسد والقلب في البوح والتمدد والاسترخاء والتعبير عن مكبوتاتهما التي حشرتها عهود ما قبل الفيس، في قيعان الروح والجسم، فنفاجأ بأنفسنا، نحن -المنشغلين- بقضايانا الوطنية والثقافية والإبداعية، وقد ضعنا في مهب الاشتباك العاطفي، مثلاً، مع بنت صغيرة جميلة وذكية، ونستغرب كيف أننا، نحن الذين لم نسمح لهذا الباب بأن ُيفتح، نشرع اليوم كل الأبواب، بتحريض وتبرير ومساندة وتشجيع من انفجار عاطفي ومعرفي مذهل، اسمه "فيسبوك".
ما الذي يأخذنا (خصوصا في هذه المرحلة) بكل هذا الاندفاع والارتعاش وهذه الحميمية إلى "فيسبوك"؟ أليس هو قلة الحب في العالم، كما وصفه حسين البرغوثي مرة؟ أليس هو رغبة إنسان عصرنا المسكين المحاصر بالكراهية والفقر والاحتلال والطائفية والحروب والقتل اليومي المجاني والجوع، في التعلق بصداقاتٍ مع أناس لا يعرف عنهم الكثير، يكتفي غالباً بالاسم والعمر والهواية، ما دام هناك أسئلة وجودية وعصاب هوياتي، وموت لا يستثني أحداً، وغياب للعدالة، وعبثية في التاريخ، وتناقضات في النفس البشرية، وبلاهة في الجغرافيا، وغموض في المصير البشري. ستظل هناك رغبة عارمة في التواصل الاجتماعي، في معرفة الآخر، الاحتكاك بالغرباء، ورغبة في الالتصاق بأجساد الآخرين، بحثا عن دفئنا الضائع، نحن الذين سقطت فينا طائرة القدر في صحراء باردة جدا، ولم يأت أحد، حتى الآن، لإعادتنا إلى البيت.
(فيسبوك) صحراؤنا الدافئة التي نؤثثها بالحب الإلكتروني والضحك المكتوب كتابة، والعلاقات المفترضة وتبادل الآراء والمعرفة. قارب أرسله الزمن الحديث ليسلينا، ويقول لنا إن الحياة تستحق الحياة، وها أنا أحميكم من برد الحياة وشحوب الحب.

4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.