شهر من الحراك الجزائري: مراكمة مكاسب بانتظار رحيل بوتفليقة

شهر من الحراك الجزائري: مراكمة مكاسب بانتظار رحيل بوتفليقة

22 مارس 2019
أعداد المتظاهرين لم تكن متوقعة (فرانس برس)
+ الخط -
تحوّلات عديدة شهدتها الجزائر خلال شهر من الحراك الشعبي الذي انطلق في 22 فبراير/شباط الماضي، رفضاً للولاية الخامسة التي كان يتوجه إليها الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة في انتخابات رئاسية كانت مقررة في 18 إبريل/ نيسان المقبل، وهي تحوّلات فرضت مشهداً جديداً لم يكن كثيرون، حتى من ناشطي الحراك، يتوقعونه في ظل هذه الفترة القصيرة، وخصوصاً أن تجارب سابقة للتحرك ضد السلطة في السنوات الأخيرة لم تلقَ التجاوب المطلوب.
ونجح الحراك باكراً في قطع الطريق على بوتفليقة والمجموعة المحيطة به باتجاه ولاية رئاسية خامسة، وحقق للجزائريين مكاسب سياسية ومجتمعية لم تسعفهم الظروف السابقة وضغوط السلطة في تحقيقها سابقاً، وعزل السلطة بشكل غير مسبوق، بعد تخلّي معظم القوى السياسية والمدنية والمؤسسات الرسمية والجيش عن بوتفليقة ومجموعته. ولكن على الرغم من ذلك، لا يزال الحراك يواجه تحديات عديدة لتحقيق كل مطالبه.

وفي الجمعة الخامسة من التظاهرات، اليوم، قرر الناشطون التركيز في المسيرات على رفع شعارات ضد التدخل الأجنبي ورفض لجوء السلطة إلى تدويل الأزمة، عبر إيفاد مبعوثين عنها، هما نائب رئيس الحكومة وزير الخارجية رمطان لعمامرة، ووزير الخارجية السابق عبد القادر مساهل، إلى كبرى العواصم الغربية، إذ زار لعمامرة موسكو وبرلين وروما، والتقى كبار المسؤولين فيها. كذلك ترفض مسيرات اليوم تصريحات مسؤولين أجانب كوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي قال إن موسكو ترفض أي تدخّل خارجي في الجزائر، وهو ما اعتبره ناشطون وقوى سياسية معارضة تصريحاً غير مقبول "لكون الجزائر ليست محمية روسية"، وكذلك تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي قال إن باريس مستعدة لمواكبة انتقال سلس للسلطة في الجزائر. كما ترفع التظاهرات اليوم الجمعة شعارات تدعو لتعزيز الوحدة الوطنية، وتحذر من مجموعات تتبنى مواقف متطرفة متعلقة بالدعوة المبكرة إلى الحكم الفيدرالي في البلاد.

وبعد شهر من الحراك، يراجع الناشطون وكوادره والقوى السياسية المعارضة المسار ومنجزاته السياسية الراهنة. في مقهى البريد المركزي في قلب العاصمة الجزائرية، يجلس كوادر من الحراك، أبرزهم عبد الوكيل بلام وسفيان هداجي وحسين بن زينة، إضافة إلى مجموعة من الناشطين والإعلاميين والكوادر في أحزاب سياسية، لمناقشة إفرازات الحراك. وفي تلك اللحظة كانت ثلاث مجموعات تحتل وسط العاصمة، في تظاهرات ضد محاولة بوتفليقة تمديد فترة حكمه، هم طلبة الجامعات والأطباء والمهندسون.

لم يكن أحد من كوادر الحراك يضع احتمالاً واحداً لإمكانية أن يبلغ الحراك مداه الشعبي والسياسي. عبد الوكيل بلام، وهو أبرز الداعين إلى مسيرات 22 فبراير الماضي واعتقلته يومها الشرطة قبل بدء مسيرة الجمعة الأولى، يقول في حديث لـ"العربي الجديد": "عندما قررنا الدعوة إلى تظاهرات 22 فبراير، كنا نتخوّف من أن تكون الاستجابة محدودة، وأن يتكرر نفس سيناريو معارضتنا في انتخابات 2014، وخصوصاً مع تردد الأحزاب السياسية المعارضة من جهة، والحزم الأمني الذي أبدته السلطة وحملة الاعتقالات والتضييق التي طاولت الناشطين قبل ذلك، من جهة أخرى". ويضيف أن "نجاح مسيرات 22 فبراير يكمن في أنها كسرت حاجز الخوف، وأحبطت خطة السلطة لفرض الواقع الأمني على الشارع، فدفع تدفق المتظاهرين على الساحات في ذلك اليوم السلطة إلى إلغاء قرار المواجهة الأمنية مع المتظاهرين"، لافتاً إلى أن "كسر حاجز الخوف كان أول مكسب حققه الحراك، وهذا شجعنا على نقل الحراك قبل الجمعة الثانية إلى الجامعات، وإشراك الكتلة الطالبية والأساتذة في الحراك، وهذا كان منجزاً ثانياً للحراك من خلال بدء التحاق الفئات الطالبية والعمالية بمطالب رفض العهدة الخامسة لبوتفليقة، وساهم ذلك في إعادة الجامعة إلى دورها الطلائعي في النقاش السياسي والتأطير المجتمعي".

خلال شهر من التظاهرات، نجح الحراك في تحرير عدد كبير من القطاعات العمالية ومؤسسات وأجهزة الدولة، أبرزها مراجعة الجيش وقادة المؤسسة العسكرية لموقفهم من الرئاسة ومن مشروع الولاية الرئاسية الخامسة لبوتفليقة، وإعلان قائد الأركان الفريق أحمد قايد صالح حياد الجيش كخطوة أولى، ثم إعلانه الدعم المباشر للحراك الشعبي وتفهم مطالبه في التغيير. لكن القاضي عبدالله هبول، يعتبر في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "أكبر ما حققه الحراك هو تحرير القضاة والمؤسسة العدلية من الضغوط، فللمرة الأولى في تاريخ الجزائر يتمرد القضاة على المؤسسة السياسية والسلطة، وينظّمون مسيرات مناهضة لرئيس الجمهورية"، مضيفاً "أعتقد أن ذلك كان ضربة قاسمة بالنسبة للسلطة التي كانت تستغل القضاء لملاحقة المعارضين". وسبق القضاة إلى ذلك قطاع المحامين، الذين ساهمت مواقفهم المبكرة الداعمة للحراك في تأجيج الرفض الشعبي لبوتفليقة.

في السياق نفسه، أنجز الحراك الشعبي بشكل غير مسبوق تحريراً لافتاً للمنظمات والنقابات العمالية التي سيطرت عليها السلطة ووظّفتها لخدمة سياساتها، كالاتحاد العام للعمال الجزائريين، وهو كبرى النقابات العمالية. وبحسب النقابي في قطاع التربية مسعود بوذيبة، فإن "الحراك حرر النقابيين والاتحادات العمالية وأعادها إلى دورها النقابي والنضالي للدفاع عن الحقوق العمالية، بما فيها حق التنظيم النقابي والحريات النقابية وحق الإضراب، بعد عقود من الهيمنة السياسية على النقابات"، مضيفاً في تصريح لـ"العربي الجديد" أن "هذا المنجز الهام للحراك سيساهم كثيراً في تحرير العمل النقابي من الزبائنية والضغوط والاستغلال والتوظيف السياسي".


على صعيد آخر، حُررت المبادرة السياسية لدى أحزاب المعارضة التي كانت تعاني من التضييق الإداري والملاحقات وتزوير الانتخابات ضدها. وبحسب القيادي في حركة "مجتمع السلم" أحمد صادوق، فإن "الحراك الذي هو في جزء منه ثمرة نضالية لأحزاب المعارضة المتعددة، حرر نجاحه كلياً أحزاب المعارضة التي استعادت زمام المبادرة، وسيعيد للمؤسسة الحزبية دورها الفاعل في إنتاج الكادر والفكرة".

لكن أكثر الفاعلين السياسيين الذين حررهم الحراك هم كوادر ومناضلو أحزاب الموالاة، التي أصيبت بصدمة سياسية دفعتها أخيراً إلى التخلي عن بوتفليقة والالتحاق بمطالب الشارع، وبرزت حالات تمرد داخل هذه الأحزاب تتجه بها إلى التفتت، وزاد ذلك من انكشاف عورة السلطة سياسياً وعزلتها داخلياً وخارجياً. حتى إن "جبهة التحرير الوطني"، الحزب الذي يُعدّ بوتفليقة رئيساً له، فقد أعلن منسقه العام معاذ بوشارب دعمه لمطالب الحراك، قائلاً إن "كوادر ومناضلي جبهة التحرير مع الحراك، من أجل وضع خريطة طريق واضحة المعالم لحل الأزمة الحالية". ويواجه بوشارب حالة تمرد، إذ رفع 30 عضواً قيادياً في "جبهة التحرير الوطني" دعوى قضائية أمام مجلس الدولة، الذي يمثل أعلى هيئة للقضاء الإداري، ضد بوشارب لإبطال شرعية شغله للمنصب الحالي في الحزب وحل هيئة التنسيق العليا التي أنشأها منذ تعيينه في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.

وفي السياق نفسه، فإن الحزب الآخر للسلطة "التجمع الوطني الديمقراطي"، يبدو في طريقه للتشظي. ولم يسلم الأمين العام للحزب أحمد أويحيى، من حالة التمرد عليه بعد 20 سنة من إدارته للحزب منذ عام 1999، إذ وقّع 20 عضواً من أبرز قيادات الحزب بياناً طالبوا فيه أويحيى بالتنحي من منصبه وتقديم استقالته. واعتبروا في البيان أن أويحيى صار "عبئاً ثقيلاً على الحزب بسبب سياسته الانفرادية وغير المسؤولة التي تخدم قوى غير دستورية". وكان المتحدث الرسمي باسم "التجمع الوطني الديمقراطي" صديق شهاب، قال إن "ترشيح الرئيس بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة كان مغامرة وفقدان بصيرة"، وإن "قوى غير دستورية كانت تدير البلاد".

وخلال أربعة أسابيع من الحراك الشعبي، ألقى الأخير بظلّه وتداعياته على قطاع الصحافة والإعلام، فتحررت الكثير من الصحف والقنوات من ضغوط رهيبة مارستها السلطة عليها لتلافي التعاطي مع شعارات الحراك الشعبي الموجّهة إلى بوتفليقة، وخرج التلفزيون والإذاعة الحكومية من قبضة الرقابة، وتمرد الصحافيون العاملون في المؤسسات العمومية، كما أعاد الصحافيون تصويب الخطاب والمعالجة الإعلامية.

ومنذ 22 فبراير الماضي، استعاد الجزائريون سلّة من الحقوق المدنية، كحق التظاهر والمسيرات التي كانت محظورة في البلاد، وساهم ذلك في إعادة اكتشاف الجزائريين للشارع الذي بات أيضاً فضاءً للنقاشات السياسية والدستورية المفتوحة. وحول ذلك، تقول الباحثة في علوم الاتصال والمجتمع فتيحة زماموش في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "من منجزات الحراك أن هناك عودة لافتة للاهتمام بالشأن العام لدى المواطن الجزائري بعد ثلاثة عقود من الاستقالة السياسية برزت من خلال ظاهرة العزوف الانتخابي، فلم يصوّت مثلاً 17 مليون ناخب من مجموع 23 مليون ناخب في آخر انتخابات بلدية جرت في الجزائر في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017"، مشيرة إلى أن "الحراك أفرز أيضاً مجموعة من الشباب والمتحدثين بوعي سياسي لافت إلى الواجهة التي كانت تحتلها وجوه سياسية منذ عقود".

على الرغم من كل ما تحقق، فإن الحراك الذي يدخل أسبوعه الخامس، لم ينجز بعد مطلبه المركزي برحيل بوتفليقة، إذ لا يزال الأخير يناور سياسياً لفرض تصوراته لخطة نقل وتسليم السلطة عبر مؤتمر وفاق وطني، ويحاول حشد قبول دولي للخطة التي تلاقي رفضاً سياسياً وشعبياً، ما يعني أن الحراك لم يستكمل بعد أهدافه السياسية، على الرغم من تحقيقه سلّة من المنجزات الأخرى.