شخوصُ الرسائل السريّة

شخوصُ الرسائل السريّة

11 فبراير 2017
+ الخط -
كالنار في كبد الهشيم، انتشر أخيراً في "فيسبوك"، تطبيقٌ جديد يسمح للأصدقاء بمصارحة صديقهم بما خفي عنه داخل كوامن قلوبهم المستترة، وذلك من دون أن يعلم مستخدم هذا التطبيق الشخصيّة الحقيقيّة وراء رسائل المُصارحة التي تصل إليه، لأسبابٍ تعود إليهم منها الجزعُ منه أو الخجل أو عدم تقبّله للنقد عادةً.
ولئن كانت هذه اللّعبة قديمةً قِدم الأزل، سرعان ما يشرع الجالسون حول مائدة الطعام في الليّالي الدافئة بمدّ زجاجة البيرة فوقها، ثمّ تحريكها بشكلٍ يبدأ دائريّاً وينتهي إهليليجيّا، فمن تقف عليه فوّهة الزجاجة، يسأل سؤالاً صريحاً لمن يعانق عجيزتها، إلّا أنّها في هذا التطبيق أنهت دور الأول، طارح السؤال، وأخفت وجه الآخر، ربيب مؤخرة الزجاجة.
لم أستطع مقاومة الجرف الحاصل، يومان على بدء السيل، كانا كافيّين لمشاركتي اللّعبة، أرسل أحدهم يقول لي: توقّف عن ممارسة دور كاتب الدراما، هذا التقّمص الذي ترتدي دثاره، يزيد من عذاباتك أكثر، شخصٌ آخر أرسل "شكلك متل..."، أحدهم قال أيضاً "الحياة بسيطة جداً ولا تحتاج إلى فلسفتها كما تفعل، إختر مفرداتٍ سهلة يمكنُنا فهمها"، أنهى قباحته قائلاً: "بصراحة كرهتني المثقفين".
حاولت عدم الرد على الأخير، وجاهدت لذلك طويلاً (ما يتجاوز خمس دقائق)، وقد كدت ألامسُ يد النجاح، لولا أنّني رأيت أنّ في رسالته تلك تعميقٌ آخر لعملية التجهيل المُمنهج، التجهيل البادئ بأغاني الهشّك بشّك الهابطة، حيث لا منحى ذوقي للكلمات، والمنتهي بأدبٍ يربطُ نفسه بمسمى الشعوب وحركة دورانها الأدبُ الشعبي، بينما لا يعرف عنها شيئاً، بل و لم يجلس في مقاهيها يوما.
وإذ لم تكن الفلسفة مشروعاً خاصاً لي في أي يومٍ، فقد ابتعدت بالدفاع عنها لأهل عُرفها، فاكتفيت بالقول له إنّها كانت وستبقى، المنبع الأول لكلّ الأسئلة، وهي بذلك أفضل من أقراص النفتالين التي يقوم بتعاطيها من المغسلة.
وأما في استخدام المفردات الصعبة، على حدّ قوله، فإن دقّة اللّغة وجماليتها هي من غابت بشكلٍ سافرٍ عنه.
لفعل الرؤية وحده في اللّغة العربية، مفردات عدّة، تختلفُ باختلاف موضعها دقّةً للوصف، فتبدأ بالكلمات الأكثر عموماً: رأى، شاهد، نظر، وتنتهي بالكلمات الأكثر دقّة: حدج (للشيء القريب) ورنا (للشيء الأكثر بُعداً).
هو خليطٌ من السُباب والشتائم إذن، وآخر من الكلام المعسول والمُحفزات (ممّا لا داعي لذكره هنا والكلام عنه)، يرسم حدود قناع رجل الصراحة، الرجل الكامن وراء حمّام الرسائل السريّة تلك.
A45E5DFC-07AA-47CE-B486-F11824CEC48D
A45E5DFC-07AA-47CE-B486-F11824CEC48D
ماجد اليمن (سورية)
ماجد اليمن (سورية)