سينما الشتاء والصيف

سينما الشتاء والصيف

02 سبتمبر 2014
أنطوني كوين (تيري أونيل/Getty)
+ الخط -

كنت في سنّ التاسعة حين ذهبت بصحبة شقيقي الأكبر كي أحضر أوّل فيلم سينمائي. بُعيد ظهر يوم شتائي من أيّام الجمعة، بعدما نلنا دعماً سخياً من النقود، مرفقاً بالرضى، من جدّتي لأبي، التي ظلّت على خشيتها وخوفها من السينما طوال حياتها! أخذنا نمشي من شارع إلى آخر متحمّسين مستعجلين تحت وابل مطر غزير، إلى أن وصلنا مدخل الصالة، التي في الحقيقة لا مدخل لها، لأنّ بابها الحديدي الرماديّ اللون يقع على الشارع مباشرة، أمام الجدار الجنوبي لمبنى فرقة حزب البعث. شعرتُ بفرحة غريبة في طريق الذهاب، وكادت الحماسة تجعلني أشعر بأنّ الفيلم قد بدأ، منذ رأيت ملصقه المبلّل، خلف شبكة من الحديد الصدئ، إلى جانب لافتة تعلن عن مباراة كرة قدم محلية، وصفحة من جريدة اليوم السابق. حينها رأيت ثلجاً كثيراً يغمر الشاشة العريضة التي كانت حائطاً بعيداً جداً عن مقاعد الصالة، وقد دُهن بكلس أبيض ناصع كثيف. رأيتُ مطاردة طويلة داخل قطار يجتاز الجبال والأنفاق، ويمرّ في غابات كثيفة. ثم ينتهي الفيلم بالبطل وصديقه الجريح، الهارب من السجن، داخل كوخ، في أعلى قمّة جبل تغطّيه الثلوج. علمتُ لاحقاً أنّ بطل الفيلم هو أنطوني كوين، الذي مثّل أحد أجمل أدواره في فيلم "عمر المختار" وأنّ موضوع الفيلم تناول حرباً حقيقية لم أعد أتذكّر أيّ الدول هي تلك التي شاركت فيها. إذ كان على البطل أن يساعد صديقه الجريح في الهرب من ملاحقيه. كانت صالة السينما، والتعبير هنا مجازي، مؤلّفة من بيت طيني واسع جداً، ذي سقف مرتفع، وقد جرى تقسيم أرضيته، المغطّاة بطبقة من الإسمنت المعتم، ذي المظهر الصقيل، إلى جزأين: علوي وسفلي، يفصل بينهما ممرّ ضيّق سرعان ما يمتلئ بقشور بذور عباد الشمس وأعقاب سجائر "الكنت" و"المالبورو". عندما كان سعر العلبة لا يتجاوز خمس ليرات سورية! كانت كراسي الجزء العلوي أقلّ بكثير من تلك التي في الجزء السفلي، حيث يتجمّع عادة شبّان أكبر سنّاً مني ومن أخي. هم أولئك الذين يعملون في "سوق العتالة" منذ الصباح الباكر، أو يشرعون في دخول عالم التدخين وهم في بداية المراهقة. وأغلبهم يعمل في بيع أوراق اليانصيب، أو في توزيع طلبات الشاي في المقاهي، أو عمّالاً مياومين، بحسب مواسم العمل الزراعية. تلك كانت ما عرفت لاحقاً تسميتها بـ"السينما الشتوية". فيما بعد، حين بلغت الـ15 من عمري، حضرتُ أوّل فيلم في السينما الصيفية: رقصٌ كثير وأغنياتٌ هندية. لم أذهب وحدي في المرّتين. في الأولى كنت برفقة أخي الأكبر، وبذلنا جهداً كبيراً حتّى أقنعنا جدّتي بأن توافق على ذهابنا. فالسينما بالنسبة إليها كانت تعني الموت والفقدان، ولم أدرك سبب ذلك إلا في ما بعد. إذ كان حريق في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام 1960 قد أدّى إلى مقتل أكثر من 200 طفل في سينما داخل بلدة عامودا. في المرّة الثانية كنتُ بصحبة أبي، الجيران حضروا معنا العرض الصيفي، إذ إنّ حائطاً غير عالٍ كان يفصل "صالة اللوج" في السينما عن سطح بيت الجيران، الذين لم يكن حضور الفيلم يعني لهم الكثير. فهم غالباً ما ينامون على سطح الدار في ليالي الصيف، وكلّ ما في الأمر أنّهم قد أعدّوا الأسرّة وخرجوا كي ينعموا بنسمة هواء، بعدما رشّوا مياهاً على سطح المنزل، أو سئموا البقاء في حوش الديار التحتية، فصعدوا إلى الأعلى، وأخذوا ينظرون إلينا، أنا وأبي، ويتابعون الفيلم في الوقت نفسه، كما لو كانوا، وكنّا معهم، حقاً، في جلسة عائلية حميمية.

دلالات

المساهمون