سفر.. لا هجرة ولا لجوء

سفر.. لا هجرة ولا لجوء

12 ابريل 2017
عمل لـ سمارة سلام
+ الخط -

من الصعب أن أسلّم أن البداية هي حدثٌ حقيقي واحد. أعتقد أن اللاوعي لديه مجموعة أحداث أهم من القضايا الكبرى التي طرأت بشكل مفاجئ على حياتي في السنوات الست الأخيرة. لكن ربما هو ما يحمله تاريخ عائلتي كفلسطينيين في وسط دمشق، وخصوصًا العبء السياسي والعاطفي الذي اكتسبته أثناء طفولتي في بيئة مخيم اليرموك كجيل ثالث من اللاجئين. هناك لقطات من طفولتي تحدد ملامح لمصطلحات كبيرة، كالعنف في الإعلام والاحتلال والوطن المفقود. تاريخي مع الفقدان قديم جدًا وله معانٍ متباينة. أذكر أمي حين كانت تضع يديها فوق عيني أثناء الأخبار. لم يكن من الضروري أن أشاهد العنف بصريًا حتى أدرك وجوده.

ربما كنت بعمر الرابعة عندما استفسرت عن معنى الأراضي المحتلة في نشرة الطقس، كان الجواب بسيطاً ولعوباً جدًا وساحرًا؛ كأنه أحجية عليّ اكتشاف تفاصيلها بشكل يومي، كل ذلك الحزن الجماعي الفلسطيني. لكني في المقابل أحببت الحياة بسبب والديّ، خصوصًا في "الأتوليه" بين الألوان والخزف وعوالم النحت؛ ذلك العالم الموازي المختلف عن الوضعية التي نرى فيها الحياة كفقرة مؤقتة في انتظار العودة.

رومنسيات الانتماء دائمًا ما تختلط بالنسبة لي. وعندما أستجوب هويتي بشكل عقلاني أشعر بدغدغة في عمق السؤال، وحتى اليوم أواصل تحريض ذاتي على الضحك في وجه التاريخ والمنطق.

لاحقًا، كنت أكتشف ماذا تعني الجغرافيا، ما معنى اللغة، وما هو الزمن والجسد. المسافات التي كنت أقطعها مرارًا بين العاصمة الجزائرية ومكان سكن أهلي في بداية الصحراء كانت مساحة إدراك هائلة لمعنى الزمن والجبال، وأين تنتهي المدن وأين تبدأ الصحراء، وكل التناقضات التي تجمع ما بينهما. في حين أن جسدي كعنصر فيسيولوجي حقيقي يتأثر بكل هذه العوامل بطريقته الخاصة.

تعلمت بقسوة كيف أرتب حقيبتي وكيف أمرض وحدي في سريري وأواجه التعنيف المباشر، وأن أذهب صباحًا إلى كلية الفنون التي كانت تشبه المعسكر إلى حد ما. وبالرغم من قساوة تلك المدن كانت غنية وعبثية وجذابة جدًا. هناك مقولة جزائرية تقول إنك إذا استطعت العيش في الجزائر تستطيع أن تعيش في أي مكان. بصراحة كان هذا عرضًا مغريًا جدًا للسفر. ما تعلمته من أصدقائي الجزائريين مناسب لكثير من الأماكن، حتى في لحظات الحنين تكون الموسيقى الجزائرية أصدق وأغنى.

دائمًا ما تساءلت لماذا تاريخنا الشرقي الموسيقي لا يعالج الغربة كما يعالجها المغربي، أظن لأن التاريخ المعقد ينتج إرثًا أغنى وأكثر تنوعًا. والآن عندما أنظر إلى الأماكن التي أثّرت بي أحصي سبع مدن في ثلاث قارات مختلفة، من المؤكد أنه لا يمكنني اختصار القارات ببلد أو اثنين، لكن ما أقصده هو الاختلافات الهائلة بين سورية والجزائر والدنمارك؛ ابتداءً باللغة والتاريخ والثقافة، وانتهاءً بالجغرافيا والطقس.

دمشق دائمًا تمثل الاعتدال بالنسبة لي، والأماكن الأخرى متطرفة بشكل متناقض، وجميعها تشبهني اليوم. أشعر أن كياني يتسع لكل المآسي في هذه الاماكن وكل لحظات الدهشة ما بينها، حتى الدنمارك تشبهني أو أشبهها بطريقة غريبة. هذه البلاد لا تحشر نفسها في نوستالجيا التاريخ، تتقدّم فقط.

كل الحكايات التي عشتها خلال هذه السنوات الأخيرة جعلتني أضع قاموسي الخاص للحياة والأشياء والعلاقات. وأمارس الفن انطلاقًا من أنه أسلوب حياة طبيعي لا بديل عنه. الفن ينسف المسلمات ويعيد بناء الحياة من جديد، وهذا ما أفعله بشكل يومي، ومشاركة ذلك مع الآخرين فيها قليل من الرفاهية.

كلمة فنان لا تعنيني لأني لا أسعى إلى لقب ولا أسعى إلى أسلوب. حزنت كثيرًا عندما كنت أتكلم عن مسيرتي في أحد المعارض وبدأ جزء من الجمهور بالبكاء. كان من الصعب تصديق كيف يمكن لشخص ألا ينتمي إلى مكان محدد واضح. إحدى المسلمات التي لا يمكن تجاوزها بالنسبة لكثير من الاشخاص، خصوصًا في المجتمعات الأوروبية الباحثة دائمًا عن الانتماء لشيء معين.

أعتقد أني سأسافر أكثر لاحقًا عندما أستطيع. أنا جائعة للحياة بكل تفاصيلها، وبكل تفاصيل الوجود الإنساني. وأقول سفر وليس هجرة أو لجوءًا. لم يجبرني أحد على السفر إلى الدنمارك وأعتقد أن الحياة أغنى من الوجود في مكان واحد مدى الحياة.

المساهمون