ساعات الدوام.. تشجيع اسكندنافيّ على العمل أقلّ

ساعات الدوام.. تشجيع اسكندنافيّ على العمل أقلّ

03 أكتوبر 2016
خفّض ساعات العمل فزادت إنتاجيته (جوناثان ناكستراند/ فرانس برس)
+ الخط -

العمل أكثر من 50 ساعة يؤدّي إلى انخفاض حاد في الإنتاجية، ويبلغ الأسوأ حين يرتفع من 55 إلى 70 ساعة أسبوعياً. ولا يتوفّر أيّ مؤشّر على زيادة الإنتاج في الساعات الإضافية.

يتحدّث الناس عن رغبتهم في العمل لساعات أقلّ من تلك المحدّدة، إلا أنّ الحال تنتهي بهم في العمل لأكثر من 50 ساعة أسبوعياً. هذا ما أظهرته دراسة شملت 600 ألف شخص من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية وأستراليا. والظنّ بأنّ فوائد العمل لساعات طويلة أسبوعياً يمكن أن تُجنى لاحقاً، هو أمر شائع عند البشر بحسب ما كشفت عنه الدراسة.

وهذه الدراسة التي أجريت في العام الماضي تُعدّ الأكبر من نوعها، وقد استندت إلى أكثر من 25 دراسة سابقة وراجعها عدد كبير من الأساتذة الجامعيين. وقد توصّل الباحثون إلى أنّه كلما كانت ساعات العمل طويلة، كلما تعرّض الإنسان لمخاطر صحية واجتماعية أكبر. فتزايد العوامل المؤدية إلى تفاقم الوضع الصحي مرتبط ارتباطاً مباشراً بطول ساعات العمل، التي قد تؤدّي إلى الإصابة بالسكتة الدماغية وأمراض القلب بالإضافة إلى تغيّرات في السلوك الاجتماعي مرتبطة بالإجهاد. فالعمل بين 41 و48 ساعة أسبوعياً يزيد من مخاطر الإصابة بسكتة دماغية بنسبة 10 في المائة. وتزداد تلك النسبة إلى 27 في المائة في حالة العمل ما بين 49 و51 ساعة أسبوعياً. ومن يعملون أكثر من 55 ساعة أسبوعياً، تزيد مخاطر الإصابة بسكتات دماغية وأمراض قلب لديهم عن 33 في المائة.

ليس غريباً أنّ المرض الاجتماعي الأكثر انتشاراً في بعض دول الغرب مرتبط بالإجهاد في أكثر جوانبه، ويفاقم المشاكل الاجتماعية الأخرى مثل العزلة والفردية، بالإضافة إلى ما تترتّب عنه من تكاليف باهظة لقطاعات عدة من صحة إلى رعاية اجتماعية في الدول حيث تطول ساعات العمل.

في الولايات المتحدة الأميركية حيث يعمل أكثر من نصف الأميركيين 50 ساعة وما فوق أسبوعياً، وبناءً على بحث أعدّه الأستاذ جون بينكافل من جامعة ستانفورد، فإن من يُسمّون "شهداء العمل" (تسمية شائعة هناك لهؤلاء الذين يعملون لساعات طويلة عند أرباب عمل) هم في الواقع "موظفون يقدّمون مئات الساعات المجانية لأرباب العمل لقاء الحصول على يوم إجازة. لكنّها صفقة سيئة للموظفين". بالنسبة إلى بينكافل، إنّها "صفقة غير مربحة لأرباب العمل. الظنّ بأنّ ساعات عمل أطول تزيد الإنتاجية، هو ظنّ خاطئ".




حركة نقابية

في المجتمعات الاسكندنافية، عملت النقابات تاريخياً على الضغط بالتفاوض، وأحياناً بالإضرابات والتحالفات السياسية مع الأحزاب، لفرض حقوق عمالية تشمل قطاعات توظيف عدّة. قوّة النقابات في تلك المجتمعات واضحة في الإنجازات التي تتحقق مع مرور السنوات، خصوصاً مسائل المساواة بين الجنسَين والأجور والإجازات وسقف ساعات العمل.

في القضية الأخيرة المرتبطة بساعات العمل، ليس غريباً أن نرى ساعات عمل أقلّ فرضتها الحركة العمالية على مدى عقود. لم يكن ثمّة سقف محدّد لساعات العمل قبل البدء بالأمر في الدنمارك، قبل 27 عاماً. تاريخياً، أخذ سوق العمل الدنماركي يتطوّر "بالتزامن مع التطورات الأخرى في المجتمع"، وفقاً لما يقوله النقابي جون إستراغارد الناشط في "3 أف" (أكثر نقابة تقدمية في البلد لمصلحة العمال داخل الحدود وخارجها). يضيف إسترغارد لـ"العربي الجديد" أنّه "منذ عام 1966 حتى عام 1990، راح العمل النقابي يضغط من أجل تخفيض ساعات العمل من 44 إلى 37 ساعة. وعلى الرغم من أنّ الرأسماليين عموماً لا يحبّذون فكرة خفض ساعات العمل، إلا أنّ تلك الظاهرة أنتجت حالة اجتماعية أفضل، خصوصاً للأسر التي لديها أطفال". ويتابع: "للأسف، مع العولمة قبل عقدَين، زادت مرّة أخرى الضغوط وبتنا الآن أمام حالة صراع آخر حول تلك الساعات".

قبل 50 عاماً، كانت ساعات العمل محدّدة في الدنمارك بـ 45 ساعة، وهو أمر اختبره المهاجر العربي محمود رضا. يقول لـ "العربي الجديد": قبل 45 عاماً، وصلت إلى البلاد. وفوراً، عملت في مصنع تعدين في ألبورغ المتعاقد مع حوض صناعة السفن الضخمة. في ذلك الزمن، كنّا نعمل 50 و60 ساعة أسبوعياً، ويوم الإجازة الوحيد كان الأحد.

يرى رضا، وهو اليوم في أواخر الستينيات، أنّ التعرّف على العمل النقابي "كان نقطة انعطاف حقيقية في حياتي العملية. فقد بدأت أعي معنى الحقوق. خضنا نضالاً طويلاً، وانتدبني وصديقي جون العمّال في المصنع من كلّ الخلفيات، لنخوض مفاوضات تخفيض ساعات العمل بالراتب نفسه". يضيف: "تطوّرت الأمور خلال السبعينيات والثمانينيات عبر إضرابات كبيرة حققنا خلالها امتيازات كثيرة. ونحن كمهاجرين، لم نكن نعرف كثيراً عن الادخار التقاعدي وبدل الإجازات والتأمين الصحي".

من جهته، يقول المفتش في مصلحة "تفتيش أماكن العمل" (هيئة تراقب التزام أماكن العمل بالقوانين مرعية الإجراء) مارتن أبيلغوورد لـ "العربي الجديد"، إنّ "التطوّر خلال 27 عاماً، أدّى إلى ثراء في صفوف الموظفين والعمّال. في الواقع، أصبح المجتمع أكثر إنتاجية مما كان بنسبة 282 في المائة". وتدعم تقارير متخصصة قول إبيلغوورد، إذ تفيد بأنّ الإنتاجية على الرغم من انخفاض ساعات العمل، إلا أنّها أعلى بالمقارنة مع المتوسط المحدد من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وهو أمر يرتبط كذلك بتساوي ساعات العمل بين الرجال والنساء.




السويد... طريق طويل

عبد الغني، مهاجر عربي سبعيني، كان يعمل في سبعينيات القرن الماضي في معامل السويد قبل أن تسنح له الفرصة بالحصول على عمل كـ "لحام أنابيب النفط" في النرويج. خبرة عبد الغني النقابية بحسب ما يقول لـ"العربي الجديد"، "أفادتني كثيراً. عضوية النقابة فتحت آفاق تخفيض ساعات العمل أمامنا، خصوصاً أنّ عملي كان مرهقاً". يضيف أنّ "التنظيم العملي أفادني، إذ صارت حقوقي مضمونة في عمل يمتدّ على أسبوعين مع استراحة لأسبوعين، براتب شهر كامل". اللافت في تجربة عبد الغني أنّ النقابات السويدية هي التي عملت من أجل حقوقه، بينما في النرويج وعلى الرغم من ضريبة الدخل التي كان يسددها، إلا أنّ الشركات المنتجة للنفط والغاز لم تعر حقوقه وحقوق العمّال ككلّ أيّ اهتمام".

والتجربة الأكثر وضوحاً هي بخفض ساعات العمل إلى ستّ ساعات يومياً، أيّ 30 ساعة أسبوعياً، والتي عملت عليها السويد بجهد خلال الأعوام الماضية. قبل عامَين، سمحت بلدية مدينة غوتيبورغ (جنوب غرب) للعاملين في مجالات الرعاية الصحية والاجتماعية بالإضافة إلى موظفي فرع شركة تويوتا للسيارات، بالحصول على راتب كامل مقابل 30 ساعة عمل أسبوعية فقط. ردود الفعل لم تكن إيجابية لدى عدد من الشركات الكبرى، خصوصاً العابرة للحدود. وقد سيقت تبريرات كثيرة لمعارضة تخفيض ساعات العمل، وعلى رأسها الخوف من انخفاض الإنتاجية.

التجربة التي بُدئ العمل بها في قطاعات بلدية، معظمها تتعلق برعاية اجتماعية وصحية، رأى فيها عضو المجلس البلدي ماتس فيلهيم حينذاك، فرصة لتخفيض أيام المرض إلى النصف. أضاف أنّ "العاملين في مجال رعاية كبار السنّ سوف يتمتّعون بطاقة أكبر لرعاية هؤلاء مع ابتسامة دائمة. وهذا بحدّ ذاته إنجاز فيه ربحية كبيرة للجانبين". يُذكر أنّ موظفي القطاع العام، خصوصاً في مجال الرعاية، كانوا يعملون بمتوسط 40 ساعة أسبوعياً، لمدّة 100 عام. لذا رأى فيلهيم أنّ "بعد هذه السنوات كلها، لا بدّ من مجارات المتغيرات الكبيرة في المجتمع عبر اختبار أشياء جديدة".

ستيف كارلسون يعمل في مجال رعاية كبار السنّ في غوتيبورغ، يقول إنّه أصبح أكثر تأييداً للفكرة بعد مشاركته في "تجربة 2005 لمدّة عام كامل، انتهت في عام 2006 بخفض ساعات العمل من 40 إلى 30 ساعة، وقد حصلت خلالها على راتب كامل". يضيف لـ "العربي الجديد" أنّ "التجربة أشعرتني بطاقة وحيوية أكثر. كنت أحضر إلى العمل وأنا سعيد وأعرف أنّ دوامي ينتهي باكراً ليكون لدينا وقت خاص عائلتي وأنا". كارلسون كان من بين 462 موظفاً شاركوا في تلك التجربة من 13 بلدية سويدية.

خرجت التجربة السويدية في عام 2007 بتقرير أشار معدّوه إلى إيجابية التجربة، "إذ إنّه لجهة ساعات المرض والإجهاد النفسي، بدا واضحا غيابها عند المشاركين". بحسب ما قالت مديرة التجربة من "معهد حياة العمل" كارينا بيلدت في اجتماع عام للنقابات: "على الرغم من أنّ الحالة البدنية للمشاركين لم يطرأ عليها أيّ تغيير، إلا أنّ اللافت في الأمر هو اختفاء التبليغ عن آلام وإجهاد كان يشكو منها الموظفون. وهذا تطوّر مذهل".

مدير فرع "تويوتا" للسيارات في غوتيبورغ، مارتن بانك، أشار من جهته إلى فائدة تخفيض ساعات العمل إلى 30 ساعة. قال: "تخيلنا أن تزيد الإنتاجية بنسبة خمسة في المئة لكنّنا كنّا أمام 20 في المئة. وكان استخدام أفضل لقدرات الورشة فيما قام الموظفون بعمل أفضل خلال ستّ ساعات بالمقارنة مع ما كانوا يفعلونه خلال ثماني ساعات". أضاف أنّ "الإرهاق يبدأ بالظهور على الميكانيكي بعد ستّ ساعات، بالتالي فإنّ الساعتَين الأخيرتَين تكونان بلا فعالية".

أمّا عالم الاجتماع في جامعة لوند السويدية، رولاند بولسن، فتحدّث عن "زيادة الإنتاج منذ عام 1976، تاريخ تخفيض ساعات العمل الأسبوعية إلى أقلّ من 50 ساعة. وهذا ينفي أن يكون الإنتاج أكبر عند العمل لساعات أطول".

ويرى الموظفون والعمال بأنفسهم عائدات اجتماعية وشخصية كبيرة من جرّاء خفض ساعات العمل. في استوكهولم، تقول المتحدثة باسم عاملين في مركز رعاية كبار السنّ، مونا أندرشون: "إذا استطعنا الحصول على 30 ساعة عمل براتب شهري كامل، أؤكّد لك أنّ وقتنا سوف يكون مفيداً للمجتمع. فنحن سوف نخفف عمن يرعى أطفالنا من الصباح حتى انتهاء ساعات الدوام الطويلة. وذلك يعني أنّنا سوف نقضي وقتاً أطول مع الأطفال. تضيف لـ "العربي الجديد": "تخيّل أن تربح 10 ساعات إضافية أسبوعياً. من شأن ذلك أن ينعكس بطريقة أفضل على العلاقات الاجتماعية، وطاقتنا تكون منصبة على تاثير إيجابي متبادل. وبحسب كثيرين من زملائي وزميلاتي، سوف يرتفع مستوى الإنتاجية". وتشير أندرشون إلى أنّها وزملاءها سوف يساهمون في حال اتخاذ قوانين خفض ساعات العمل "في تطوّر صحة المجتمع نحو الأفضل، مع غياب الإجهاد الذي يعاني منه مئات آلاف العاملين والموظفين".

إلى ذلك، تُعدّ مسألة خفض ساعات العمل الأسبوعية إلى 30 ساعة فيما يطالب البعض بخفضها إلى 25 في الدنمارك، قضيّة تتطلب بحسب الخبير الاجتماعي النفسي إيريك بيترسون "عملية تكييف المجتمع، أي إعادة بناء وإصلاح وتنظيم تأتي بالتدرّج. لكن، ما من شكّ بأنّ التهيئة بدأت وتتراكم عبر التجارب المسنودة بخبرات وأبحاث تفصل كل الانعكاسات الإيجابية والسلبية".

دلالات