سؤال الما بعد

10 مايو 2014

Fanatic Studio

+ الخط -
عندما أقدم النظام العراقي، في الثمانينيات، على إشعال حروب المنطقة، لم يضع أحد من أقطابه، ولا من مناصريه، سؤال الما بعد، أي ماذا سيحدث من هزات؟ وماذا سيندلع من حرائق؟ وماذا سيحل بالشعب العراقي من تنكيل وتشريد؟ كان النظام يقدم، من خلال إعلامه، شخصية تشبه شخصيات الرسوم المتحركة، شخصية وزير الإعلام الذي يكيل الهزائم الوهمية للعدو، ويصدق أن "العلوج قد خسئوا"، وأن بغداد محقت أعداءها الجبناء. لا أحد وضع في حسابه احتمال الهزيمة، وما سيترتب عنها. لا أحد وضع في حسابه احتمال انهيار النظام، واحتلال العراق وتقسيمه وتركيعه. لا أحد كلف نفسه عناء تحضير البلاد للاحتمالات الممكنة، وتحضير الشعب العراقي للمحنة القادمة، أو استشارته في ما سيقبل عليه من تضحيات وآلام. كان النظام واثقاً من نفسه، ومن خطته، ولا يتوقع مستقبلاً خارج احتمالاته، وكان متأكدًا أنه سيكون في الما بعد، كيفما كان هذا الما بعد، مأدبة انتصار مستحيل أو حقل خراب، وكان متأكداً أن الدمار الذي سيلحق بالبلاد سيذهب بكل شيء سواه، وأنه في لحظة الغرق لن يكون هناك أحد غيره، ليلقي طوق النجاة للغرقى، ليستأنف معهم  إبحاراً آخر نحو غرق جديد.
العمى السياسي نفسه أصاب النظام السوري في ما بعد، عندما رفض أن يقرأ تحولات العالم من حوله، فلم يكلف نفسه عناء الإنصات إلى شعبٍ يحكمه منذ عقود بالحزب الوحيد، وبالعائلة الحاكمة، وبالجمهورية الوراثية، وبلا "صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وعوض التفاوض مع الديموقراطيين الذين نزلوا إلى الشارع، وترتيب انتقال حكيم معهم، رد عليهم بالرصاص الحي، من دون أن يفكر لحظة واحدة بمخاطر "التربص بسورية"، والإيقاع بها في براثن حرب أهليةٍ، لا تجد لنفسها تربة أخصب من تربة العنف والتعصب. والأغرب من هذا أن لا يلتقط نظام، قائم على إحصاء أنفاس الناس، شيئاً مما حضر لسورية، وأن لا يتوقع، وهو يمشي بين الدماء والأشلاء، أن وحوش الحرب ستتناسل حتماً في هذا النزيف، وها هو النظام السوري يتقدم نحو ما يعتبره انتصاره الوشيك على "الإرهاب"، ويحضر رئيسه، لانتخابات سيفوز فيها لا محالة "بثقة الشعب"، ولا يتوقف ليسأل نفسه، ثم ماذا بعد؟ ماذا بعد خراب المدن والاقتصاد والبيئة؟ ماذا بعد تشريد الملايين، ومقتل مئات الآلاف؟ ماذا بعد خراب الروح؟ هل يمكن بناء شيء على أسس الفجائع التي لن يغفرها أحد؟
ثم ماذا بعد؟ سؤال بسيط لا يطرحه أحد في العالم العربي، ولو على سبيل رياضة ذهنية عابرة، كل شيء رهين بالمؤقت والآني، والقناعات الخاطئة لا تنهار إلا بالانهيار الجسدي لأصحابها.
لا يسأل أحد ماذا بعد تتويج عبد الفتاح السيسي في مصر، وماذا بعد تتويج بوتفليقة في الجزائر، ماذا بعد تعيين ولي عهد جديد في السعودية، وماذا بعد مجيء أمير جديد في قطر، ماذا بعد أزمة الديموغرافيا في الخليج، وبعد ميثاق اليمن وعطب البحرين، ماذا بعد النفط الموريتاني، واحتواء الإسلاميين في المغرب، واتفاق التهدئة في فلسطين، ماذا بعد عودة حزب الله من جهاده السوري، ماذا بعد الذي سيمضي، وبعد الذي سيأتي، وبعد الذي سيأتي بعده الطوفان، وماذا بعد الطوفان؟؟
أسئلة كثيرة كلها تنتمي إلى سؤال واحد هو سؤال الما بعد، والذي وجدت له الديموقراطية جواباً بسيطاً، هو التغيير ضمن الاستمرارية، ووجد له الاستبداد جواباً تراجيدياً، هو أنا أو الأرض الخراب.
في كل المجتمعات التي استدعت المستقبل إلى حاضرها، هناك خلف كل الصناعات والرهانات والنجاحات صناعةٌ لا يسمح أحد بانهيارها، هي صناعة الأمل، تلك التي تطعم كل يوم، من خلال المعرفة والفن والتكنولوجيا، عقول الشباب ووجدانهم، وتضعهم في قلب المغامرة العظيمة التي اسمها الحياة، بما تعنيه من إمكان، ومن استحالة، ومن تسابق على الأراضي البكر للمستقبل، ومن إقامة خطرة في الحد الفاصل بين الهنا والآن.
عندما نتكلم مع شباب هذه المجتمعات، نتعجب من حجم الأشياء الممكنة والمبهجة التي توجد في لغتهم، حتى عندما تكون هذه اللغة رافضة وقاسية، فإنها تكون ذات قدرة تفكيكية عالية، تعري الواقع، وتحول سواده العميق إلى إنارة معرفية، في نوع من السعي إلى السيطرة على العالم بالكلمات، إنها قدرة مناقضة تماماً لخطاب الرفض الذي يهيمن في المجتمعات، التي تنفي المستقبل من حاضرها، وتجتهد في استدعاء الماضي وإعلائه دائماً فردوساً مفقوداً. هنا نجد لغة عاجزة عن التفكيك، مغرقة في الهجائية السطحية، لا تستطيع العثور في حطام المرحلة على شيء نفيس تنقذه، ولا تبتكر في مواجهة سواد المصائر سخرية سوداء تجعل من لذة الكلمات جسراً للعبور نحو الضوء.
وفي نهاية المطاف، العطب الأكبر المترتب عن غياب سؤال الما بعد يوجد في صناعة الأمل، في الواقع وفي اللغة، وهو عطب يتوج العدمية خياراً مهيمناً في الموقف والتحليل والسؤال، لكنها عدمية بلا روح، عمياء لا علاقة لها بتلك "العدمية المريحة" بتعبير سيوران، تلك التي استطاعت أن تنقذ أوروبا نفسياً وإبداعياً، بعد عتمات الحرب العالمية الثانية. 
F9F7206E-7CC0-434F-B4BD-52CD7C8DA5F3
محمد الأشعري

كاتب وشاعر وروائي مغربي، وزير سابق للثقافة والإعلام في المغرب، ونائب سابق في البرلمان. مواليد 1951. ترأس اتحاد كتاب المغرب، له عشرة دواوين، وفازت روايته "القوس والفراشة" بجائزة البوكر العربية.