روجيه غارودي.. خطّان متوازيان من النسيان والانتقائية

روجيه غارودي.. خطّان متوازيان من النسيان والانتقائية

17 يوليو 2019
+ الخط -

وكأننا لسنا حيال المفكّر والكاتب نفسه، حيث أن صورة روجيه غارودي (1913 - 2012، تمر اليوم ذكرى ميلاده) وأشكال حضوره في الثقافة العربية مختلفة بشكل قاطع عنها في ثقافته الأم.

نجد، مثلاً، تنشّطاً - خصوصاً في عقود ما بين سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي - في نقل أعماله إلى العربية لم يحظ به كثير من المفكّرين الفرنسيين، وها هي مؤلفاته من أكثر الكتب الفكرية والسياسية تداولاً في الفضاء الافتراضي العربي ("حفارو القبور"، "الأصوليات المعاصرة"، "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية"...). كل ذلك يعطي انطباعاً بحضور مكثّف في الثقافة العربية.

سنصطدم بحضور مختلف تماماً لغارودي في فرنسا، فالرجل يكاد يكون بلا أثر في المكتبات التجارية الكبرى، على عكس كثير من مجايليه، وفي المكتبات العمومية وحتى الجامعية المتخصّصة في المجالات التي كتب فيها مثل الفلسفة والسياسة والنسوية والمستقبليات والفن والأدب. بل إن اسمه يسقط من أنطولوجيات الكتب الفكرية ومعاجمها، على الرغم من كون أعماله قد صدرت لعقود عن أشهر دور النشر. وربما لولا باعة الكتب القديمة وبعض المواقع الإلكترونية لاختفى غارودي تماماً في فرنسا.

كثيراً ما تُقدّمُ مواقفه المناهضة للصهيونية كتفسير حاسم لهذا الوضع، حيث استُعملت ضده العصا القضائية ضمن ما يُعرف بقانون "معاداة السامية"، ثم نشطت اللوبيات لإقصائه من الحياة الثقافية تدريجياً وصولاً إلى الوضع الحالي. لم يكن الأمر سهلاً، فغارودي قد وضع قرابة المئة كتاب، وعاش مثل هذا العدد من السنوات كانت زاخرة بالسجالات والاشتباك بالحياة العامة، وأيضاً بالتقلبات الفكرية والسياسية، وهو الذي كان أحد أبرز زعامات اليسار الفرنسي وشغل مناصب سياسية ضمنه، ثم انتقل إلى "المعسكر" الإيكولوجي، وصولاً إلى إسلامه. أي أننا لسنا إزاء كاتب منعزل يسهل إخفاء أثره. لكن كيف تفقد ثقافة ذاكرتها بهذا الشكل؟

ربما يبدو الفضاء العربي مثل بديل تعويضي يلتقي فيه غارودي بالقراء. لكن هل الأمر كذلك فعلاً؟ فلو أننا نظرنا في قائمة أعماله المنقولة إلى العربية سنجد أن ما يحضر منها في الغالب هي الكتب السياسية والسجالية، فيما يكاد يختفي المفكّر. لن نعثر مثلاً على أعماله النقدية في العلوم الإنسانية أو تلك التي يقدّم فيها قراءات موسّعة بين الفكر والفن.

بالتالي، ورغم الحضور الذي يبدو مكثفاً، تغيب عن العربية أعمال أساسية مثل "الجماليات واختراع المستقبل"، و"عن واقعية بلا ضفاف"، و"عِلمُ نحو الحرية"، و"المستقبل: طريقة استخدام"، ناهيك عن مؤلفات أدبية مثل "ثامن أيام الخلق" و"آنتايوس". ربما من الطبيعي أن تكون كل ثقافة انتقائية في نقل أعمال كاتب ما، لكن هل يمكن الحديث حقاً عن حضور قوي لغارودي في الثقافة العربية؟



المساهمون