رحلة غرقٍ سرّيّة

رحلة غرقٍ سرّيّة

25 مايو 2014
+ الخط -

لم يكن اتّخاذ قرار الإبحار ناجماً عن "غواية البحر"، بما يختزن من مجهول ومغامرة، إنّما عن "غواية الخلاص" من قصف النظام وتشريده السوريين الذين يضطرّون للنزوح، والهمّ الاقتصادي في دُول الجوار، ناهيك عن متابعة الدراسة ورسم مستقبلٍ "بديل" عن المستقبل الذي تقطّعت طُرُقه، وانتُزعت اللوحات الدّالة على جهاته.
لكن، تبقى السّويد، هولندا، ألمانيا، دولاً تشير البوصلة إلى جهتها، البوصلة الوحيدة التي يملكها كل من قرّر اللجوء، عبر تركيا، ومنها إلى اليونان، ثمّ إلى المحطّة الختامية، حيث بصمة اللجوء.
بعد فشلٍ متتالٍ في البر، بسبب مراقبة النهر الفاصل بين الحدود التركية واليونانيّة، بشكل دقيق، من حرس الحدود من الطرفين، اتّخذ الشابّان الجامعيان، عادل وعبد اللطيف، مع زوج خالتهما، قراراً بالسفر بحراً انطلاقاً من أزمير، كان البرد وكلمة  "بَلَمْ" ذاك القارب السريع، كفيلين بترددهم فترة، فالبحر غدّار كما يقال، وهو في الشتاء مجنون، وحوادث "البلمات" على كلّ لسان في ساحة "إكسراي" في اسطنبول، المركز السرّي لاتفاقيّات التهريب.
في مكتبٍ متّفق عليه، بين المهرّب والمهاجر الذي يطلقون عليه لقب "نَفَرْ"، أمّن كل نَفَرٍ مبلغاً قدره (2500 يورو).
اجتمع في "النقطة"، وهي مكان انطلاق البَلَمْ، خمسة عشر شخصاً، بينهم سيّدة واحدة وطفلها، ورجل مُسِنّ تجاوز السّتين، هو جَدّ الطفل، أمّا البقيّة فشباب تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين عاماً، الكلّ يضع سترة نجاة برتقاليّة، ما عدا الصّغير الذي لم يتجاوز السّنة، وجدّه الذي رفض لبس السّترة، قائلاً: ساعة زمن ومنوصل.
الساعة الواحدة ليلاً، "النقطة" موحشة، الأشجار أشباح عملاقة متمايلة، البحر واسع بلا حدود، ألسنة مَوجِه البيضاء الدّافقة تحاول سحب أقدام المجموعة إلى اللج، وصوت هديره مخيف، عميق، صاخب، مجهول المصدر. أمّا "البلم" فصغير وراجف، يتأرجح كقشّة في مهبّ الموج.
فور ركوبهم، وقبل انطلاق البَلمْ، هبّت ريحٌ باردة لاذعة، الكلّ كزّ على أسنانه، وأشجعهم قال: شيء منعش، لكنّ أحداً لم يبتسم أو يعلّق.
"القبطان" تركي، يشير إلى أن لحظة الانطلاق حانت، شابّان صديقان جاءا من الشمال السوري، يمسكان أكفّ بعضهما صغيرين ذاهبين إلى المدرسة، يجتازان طريقاً مزدحم السّير، يقول الأوّل: برد، فيجيبه الثاني: "شوَيْ"، رجفة طارئة تجتاحهما سويّة، يلتصقان، بينما يعلو هدير محرّك البَلمْ، ليشوّش على العبارة الأخيرة التي قالاها علناً أو سرّاً.
كلمات قالها شبّان أربعة من القامشلي بالكرديّة، أظنّ أنّها موجّهة للأم التي جلست وسط البَلمْ حاضنة ولدها بعصبيّة، فاركة أنفها بأذنه، وكأنها تستمّد الأنس منه.
وشقّ البلم الصّغير أوّل موجة، ومع الرّذاذ، انتثر الدعاء، العيون الخائفة متّجهة نحو شاطئ الفرج، هذا يحلم بشهادة، وذاك في مشفى لكي يعالج ابنه من التلاسيميا، فعلى الرغم من أنهار الدماء في بلاده، لا يجد له سيروم دم واحد في المشفى كلّ شهر، وثالث يحلم بلمّ الشّمل، ورابعة ببيت لا تنقطع فيه الماء ولا الكهرباء، ويطفطف المحرّك، يتحشرج صوته، وينطفئ.
لم تمر سوى نصف ساعة، الكل في حَيرة ومفاجأة. "القبطان" يحاول الاقلاع من دون ثمرة، المركب يقف مستسلماً للموج والريح والزمهرير، موجة مجنونة تتدفق إلى البلم، الأمّ تصيح مذعورة، الشابّان اللذان مازالا يمسكان بأيدي بعضهما، وبحركة واحدة، كأنّ صرخة الأم صافرة انطلاق، يلقيان بأنفسهما في البحر، بلحظة.. أو أقل، ينقلب البنم ويغرق.
صراخ الغريق لا يماثله صراخ، صراخ ملؤه الخوف والموت.
لم يصرخ الجد سوى صرخته الأخيرة، حقيقة لم تكن صرخة كاملة، نصف صرخة في الأجواء الموحشة، ونصف في الماء الذي بلعه.
- الولد.. وين الولد؟
 ويلوب الشباب بحمّى، ويصيح أحدهم: وجدته، وتسمع الأم بكائه، فتسبح، تجدّف بكلّ ما أوتيت من أمومة، وتمسكه، تلفّه، ويرتجفان.
يقال طَعَنَهُ البرد، ما أبلغ اللغة، وما أبلغ الطعنات التي تنغرس في مسامات الجسد.
توقّفي أيتها الرّيح، فالماء على الرغم من برودته أرحم.
في الماء، يُخرج أحدهم موبايله الملفوف بكيس نايلون، متصلاً بخفر السواحل، الطرف الآخر يكلّمه بالتركي، وهو الذي لا يعرف كلمتين، يشرح صارخاً ما جرى لهم.
تنتهي المكالمة، فيشرح لرفاق الهجرة أن الخفر فهموا أنهم يغرقون، وسيحدّدون بالموبايل مكانهم، وهم لا شكّ قادمون.
وقَدِمُوا بعد نصف ساعة، في الثانية ليلاً، داروا حولهم، من دون أن يوجّهوا بلجكتورات قواربهم ليكشفوا الموج، صرخ الجميع مستغيثاً، نفخوا في صفّارات السّتر من دون جدوى، وكم كان منظر قوارب الإنقاذ المغادرة محبطاً.
ثلاثة من الشباب، عادل وعبد اللطيف، قرّرا السّباحة نحو الشاطئ التركي غير المرئي، مع زميلهم نور، بينما قرّر زوج الخالة البقاء مع المجموعة.
في الثّامنة والنصف صباحاً، وصل الشبّان الثلاثة إلى الشاطئ، ستّ ساعات ونصف سباحة، ويشير نور إلى جهة رفاقه في العمق البعيد إلى أحد الصيّادين، قبل أن يسقطوا مغميّاً عليهم.
ما جرى بعد ذلك كان موثّقاً في شاشات التلفزة، صغير متجمّد منذ ساعات، وأمّه لاتزال تحسبه نائماً.
أربعة شبّان سرى بأجسادهم الخدر بعد ساعتين. خدر لم يستطع أن يطرده تشجيع زوج خالة الشّابين بكل ما امتلك من جرأة وإيمان، الخدر يسري ببطء وخبث، أحدهم معه زجاجة "شطّة" يريد شربها، لكي تعطيه الطاقة، يرفع يده نحو فمه بكلّ ما أوتي من رغبة في البقاء، لكنّها تفلت من يده، وتغوص، وفي اللحظات ذاتها، ترتفع أرواحهم نحو السّماء، الواحدة تلو الأخرى، تاركة أجسادهم طافية كأصص نُسِلت زهراتها ذاتَ حلم. 

 

 

ACEF5BDC-7842-48E5-880D-B87B53AF68CA
ACEF5BDC-7842-48E5-880D-B87B53AF68CA
خيرالدين عبيد (سورية)
خيرالدين عبيد (سورية)