دروس الحرب وإرثها: ثورات التحرر والرعاية الاجتماعية

دروس الحرب وإرثها: ثورات التحرر والرعاية الاجتماعية

10 مايو 2015
بقايا عتاد أميركي في فييتنام (هوانغ دين نام/فرانس برس)
+ الخط -
لم تترك أي حقبة دموية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) أثراً في الذاكرة الجماعية العالمية كأثر حرب فييتنام. كانت الحرب ونتائجها "رائدة" في كل شيء: مقاومة الفييتكونغ للجيش الأميركي. الثورة الاجتماعية التي اجتاحت الغرب برمّته. انتشار التظاهرات الشعبية المنددة بالحرب في الولايات المتحدة، التي انغمست في مستنقعات حقول الأرز. الحقول التي قدّمت لها فرقة "البيتلز" البريطانية أغنية "حقول الفراولة إلى الأبد" (strawberry fields forever)، في ذروة شهرة الفرقة ومساهمتها في بثّ نمط جديد من الموسيقى في ستينيات القرن العشرين.

فييتنام، التي فاق عدد الأفلام المُنتجة عنها في هوليوود، تلك التي أُنتجت عن العراق ودول الكتلة الشرقية الشيوعية، باتت الألم الفعلي لذاكرة أميركية، أنسَت الأميركيين زحف قواتهم إلى شبه الجزيرة الكورية (1950 ـ 1953) لمساندة الجنوبيين ضد الشماليين، لأن وجع فييتنام أكثر إيلاماً بأشواط. صحيح أنه يُمكن أن تُشكّل الحروب انقساماً لدى الرأي العام الأميركي، كما جرت العادة، خصوصاً بين الجمهوريين والديمقراطيين، لكن ليس فييتنام، التي اتفق الجميع على "سوء التعامل الأميركي معها". 
ساهمت تلك الحرب في بروز حركات التحرّر وانتشارها على مستوى العالم. حركات "الألوية الحمر"، و"الذئاب الرمادية"، و"بادر ماينهوف"، وغيرها، كلها ذكرت في أدبياتها مآسي حرب فييتنام. حضرت فييتنام في ثورة طلاب
فرنسا في مايو/أيار 1968، ورفدت المجموعات المُطالبة بحقوق السود في الولايات المتحدة بالقوة اللازمة، ووضعت اللُبنة الأولى لحركات المجتمع المدني، خارج سياق الحكومات، وكانت مصدر إلهام لبروز قوة ثالثة في مواجهة القطبين الأميركي والسوفييتي.

اقرأ أيضاً: تاريخ من الكذب الأميركي: يختلقون قصصاً عن الحروب

كما رسّخت، في حينه، فكرة "المقاومة البدائية" بمواجهة أي مُحتلّ، مهما بلغ من قوة، وقدّمت نموذجاً حقيقياً عن "عدم التراجع في المعركة مهما بلغت حجم التضحيات"، وذلك ما كرّسته المقاومة في فييتنام بعد إخراجها القوات الأميركية من البلاد، لتتسارع الأمور، وتسقط سايغون بيد الشيوعيين الزاحفين من الشمال. وقبل ساعات من سقوط المدينة، وقف المئات من الفييتناميين الجنوبيين في طوابير، سعياً للصعود إلى الطائرة الأميركية الوحيدة التي كانت تنقل الهاربين، من على سطح السفارة في سايغون، إلى الأسطول المتمركز في بحر فييتنام. لخّص المشهد المأزق الأميركي وانتصار الفييتكونغ. بات ثوار فييتنام مضرباً حقيقياً لنوعية جديدة من القتال. كما أن عبارة "جرائم الحرب"، بدأت من البوابة الأميركية.

كانت تلك الستينيات مزيجاً من ثورة مجتمعية لجيل آتٍ على حساب جيل راحل. كُسرت "التقاليد" في هذا العقد، بفعل حرب فييتنام. تغيّرت مفاهيمٍ شتّى. وصل اليسار إلى عقول الناس، بعد سنوات من ترهيبهم منه وشيطنته. تبيّن لاحقاً بالنسبة لعدد كبير من الخائفين، أن اليسار ليس كما روج له الأميركيون، وهو ما ساهم جدياً باتخاذ الغرب عموماً إجراءات "وقائية" لعدم وصول الزحف الأحمر الى أراضيه، من خلال تشريعات حقوقية أوروبية وأميركية وضعت تحت خانة "دولة الرفاه والرعاية الاجتماعية".

لم يكن صعباً على الولايات المتحدة، إدراك أن تجربة فييتنام باتت معياراً لها في تحرّكاتها العسكرية حول العالم، وهو ما استفادت منه واشنطن في أفغانستان والعراق وسورية واليمن والصومال ويوغوسلافيا السابقة ونيكاراغوا وبنما، أي في كل مرحلة من مراحل التدخّل العسكري، المباشر أو غير المباشر فيها. على أن أبرز ما خلّدته حرب فييتنام، هو فكرة خروج فقراء بثياب رثّة، من أنفاق عدة في حقول الأرز والمستنقعات، لمواجهة جيش منظّم، وليس أي جيش، بل الجيش الأميركي، ثم انتصروا لحظة "سقوط سايغون ورفع العلم".

اقرأ أيضاً: فيتنام .. قدرة الخروج من الماضي