درس الإسباني أدولفو سواريز للربيع العربي الانتقالي

درس الإسباني أدولفو سواريز للربيع العربي الانتقالي

24 مارس 2014

الراحل أدولفو سواريز يصافح خوان كارلوس

+ الخط -

 

إِذا كان الشعب الإسباني يجرؤ، الآن، على التغني بالشاعر، فيديريكو غارسيا لوركا، وإِذا كان القضاة المتحمسون الشباب يجرؤون على محاكمة ماضي إسبانيا الأسود والمؤلم، إبّان حقبة الجنرال، فرانكو، بِحُريّة كبيرة، فلأن إسبانيا تغيرت، فعلاً، ولأن الديمقراطية نضجت، بما فيه الكفاية. وجاءت وفاة رئيس الوزراء الإسباني الأسبق، أدولفو سواريز، الأسبوع الجاري، لتذكّر الإسبان والعالَم بدور هذا الرجل الاستثنائي في تثبيت الديمقراطية في بلده، وفي وصولها إلى الاستقرار الذي تعرفه اليوم، بعد مرورها بفترات حالكة في تاريخها، كان فيها مئات الآلاف من شعبها مشردين في دول الجوار الأوروبي، وكان العنف العسكري وسيلة الحوار الوحيدة بين السلطة ومُعارضيها.

إن الفترات الانتقالية في تاريخ إنجاز الاستقلالات والثورات، أو التغيرات السياسية، تكون غالباً صعبة، لأنها قد تطول وقد تُفقِد الأمل، أَو قد تعيد النظام السابق. ولهذا، تحتاج إلى رجال استثنائيين، لأن هذه الفترات تكون حرجة وغير مضمونة، وهو حال جنوب إفريقيا مع نيلسون مانديلا، مثلا، والذي ركّز المصالحة التاريخية، ومنح لمكونات جنوب إفريقيا المختلفة الأمل في التعايش المشترك، وفي التداول السلمي على السلطة. الأمر صعب، فعلاً، في الدول الديكتاتورية والاستبدادية، ما يتطلب كثيراً من الصبر والجلد والمرونة. وهو حالُ إسبانيا الديمقراطية الخارجة توّاً من دكتاتورية الجنرال فرانكو (20 نوفمبر/تشرين ثاني 1975)، الذي وصل إلى السلطة بعد حرب أهلية دامية، لم تندمل جراحها بعدُ، وحقائقها لمّا تنكشف كلها بعدُ.

نحن في سنة 1976، يرحل الجنرال، وتعود الملكية البرلمانية إلى السلطة في إسبانيا، فيقرر الملك، خوان كارلوس، بعد سبعة أشهر على رحيل الدكتاتور، تعيين أَدولفو سواريز، رئيساً للوزراء في إسبانيا، يمنحه صلاحيات كبيرة، ويطلب منه العمل من دون خوف، وهو لم يتجاوز سن 43. فيخاطب هذا الرجل الشعب الإسباني والعالَم، بجملته التاريخية: إِن إسبانيا ستفاجئكم.

بالفعل، أدى الرجل السياسي دوراً حاسماً في توحيد الأمّة الإسبانية، والتي كانت ممزقة بين تيارين قويين، متوازيين ومتصارعين، بين اليمين واليسار، بين من ربح الحرب الأهلية، ومن خسرها، لكن إسبانيا خرجت بعد انتهاء الحرب الأهلية فيها سنة 1939 بشرخ عميق، جعل جزءاً من الشعب لا يثق في الطبقة السياسية الحاكمة، ولا في جدوى العمل السياسي أَصلاً. إِذ في ظل الدكتاتورية، لا توجد ممارسة سياسية حرة وحقيقية، ولا تداول سلمي على السلطة. وقد أَظهر رئيس الوزراء الجديد حسّاً كبيراً بالمسؤولية، ووعياً بجسامة المهمة التي يتصدّى لها، وأَدرك أَن عليه بعث رسائل تطمين لكل الأطياف السياسية الإسبانية، ودعوتها إلى العمل السياسي، من خلال الاعتراف بها، وعدم تركها تمارس أَنشطتها في السرية، وأَيضا بتأكيد أن هذه الفترة الانتقالية لن تستمر طويلاً، وكان إعلانه تنظيم انتخابات مبكرة ضمانة كبيرة يقدمها للأطياف السياسية الإسبانية. وقبلها، دشّن مسلسل الاعتراف بالأحزاب السياسية.

لم يكن الأمر سهلاً، لأنه استوجب تقديم تنازلات من كل الأطراف، وخصوصاً الحزب الشيوعي الإسباني الذي كان يرفض مبدأ النظام الملكي في إسبانيا. وفي المقابل، كان الجيش الإسباني، القوي والنافذ، حينذاك، يرفض السماح له بالعمل. ولكن، استطاع، سواريز، بحنكته، إقناع كل الأطراف بتقديم تنازلات مؤلمة، حقاً، لكنها ضرورية، حتى تبنى إسبانيا الديمقراطية. فالبلد محتاج إلى كل أبنائه، وكل طاقاته. وهذا ما نجح فيه، واستطاع، سواريز وحزبه "اتحاد الوسط الإسباني" الفوز في أول انتخابات في إسبانيا الجديدة. حظي الرجل بشعبية كبيرة، لأنه استطاع فعلاً إحداث نقلة في العقلية الإسبانية، وفرض مكانة إسبانيا في أوروبا، فمنحه الشعبُ الإسباني الثقة في الانتخابات الثانية. 

ولأن التغيير كان صعباً في إسبانيا، حاول الجيش الإسباني، والذي يحنّ إلى عهد، فرانكو، العودة إلى الحلبة السياسية من جديد، ونظم، بزعامة، أنطونيو تيخيرو، محاولة انقلابية. لكن، يُشهد للملك، خوان كارلوس، ولرئيس الوزراء، سواريز، رفضهما لها، وإفشالها في النهاية. وظل صمود، سواريز، واقفاً أمام أزيز الرصاص، يتحدّى الجنود في البرلمان، في حين ظلّ نوّابُ الأمّة منبطحين على الأرض، ماثلاً في عيون الإسبانيين، ومنحه هالة استثنائية في قلوب هذا الشعب.

ولكن، للتداول السياسي ثمنٌ يجب دفعه، إِذ لا يوجد شيءٌ دائم في السياسة، كما في الحياة، فقد اضطرَ، سواريز، الى الاستقالة ثم مغادرة حزبه، وتأسيس حزب آخر صغير، فجاءَت الضربة من الشعب الإسباني، الذي قرر وضع حدّ لليمين في السلطة، وانتخب ثعلباً سياسياً كبيراً طبع الحياة السياسية الإسبانية، فترة طويلة، وشكّل حكمُهُ نهايةً لخطر الانقلابات العسكرية الذي كان يخيم على إسبانيا، وهو الاشتراكي، فيليبي غونزاليس.                          

وليس مصادفةً أن كلماتِ تأبين الرجل الذي رحل، بعد معاناة طويلة مع مرض الزهايمر، كانت تصب كلها في تقريظه، والإشادة بدوره التاريخي الاستثنائي في تاريخ إسبانيا، منشطرة على نفسها، وعصيّة عن مصالحة وطنية شاملة، فلا ديمقراطية من دون فترة انتقالية ناجحة، تمنح الثقة للشعب ولقواه السياسية.

ثم إن حسّهُ الوطني جعله، وهو المعروف بمعاداته الحزب الشيوعي، ينفتح على هذا الأخير، ويقنعه بالانخراط في المسلسل الديمقراطي، وهو ما جعل قائد هذا الحزب يصفه بـ"المعادي الذكي للشيوعية". أدرك، سواريز، أن الديمقراطية لا تُقصي أيّ طيف سياسي، وأن الشعب سيّدُ نفسِهِ، ويختار من يشاء.

ها هو يرحل، بعد أَن عاد اليمين إلى السلطة، ولو أنه لم يعد قادراً على معرفة ما يحيط من حوله، لمرضه.

الدرس الإسباني مهمّ جدا للعرب، خصوصا في الدول التي أَنجزت ثوراتها، في هذا الربيع العربي الصعب، أَو التي لا تزال في ثورتها وتضحياتها.

يقول الدرس الإسباني: إن أي طيف سياسي لا يستطيع، وحده، أَن يحكم بلداً عربياً. وأن هذا الطرف، إن وصل إلى الحكم، عليه أن يَقبل بمبدأ التناوب السلمي على السلطة. كما ينصحُنا الدرسُ الإسباني بوجوب احترام الحساسيات السياسية كافة، والابتعاد عن الإقصاء، لأن الحَكَم هو الشعبُ، وهو سيّد نفسه. وأَيضاً، وهذا هو المهم، على وجوب التحلّي بالصبر. فالفترات الانتقالية قد تطول، لأَن الخراب الذي أَحدثته الدكتاتوريات العربية كبيرٌ، وما السنوات الثلاث التي قضاها التونسيون، من أَجل إقرار دستور جديد، إلا دليل على أَن التحديات كبيرة، وأنه يجب مراعاة كل الاتجاهات والأطياف والحساسيات السياسية في البلد. وهو، أيضاً، درسٌ للإخوة في مصر على وجوب محاورة الجميع للجميع، فسواريز، استطاع بذكاء، أَن يصالح الشيوعيين مع الملكيّة ومع العسكر، وهذا، أَكبرُ إنجاز.

ساعدت هذه الفترة الانتقالية الشعب الإسباني على تعلم الديمقراطية وممارستها، وهو، أَيضاً، درسٌ يؤكد أن الشعوب العربية، الخارجة، توّاً من الدكتاتوريات، يجب عليها أَن تتعلم الديمقراطية، بعمقٍ، ولكن، برحابة صدر. صحيحٌ أن المسار شاقٌّ، لكنه رهانٌ ضروري، ولا غنى عنه في ظل التحولات الجديدة، ويجب كسبُهُ، كما كسبه الشعبُ الإسباني.