خلسة المختلس

30 ديسمبر 2014
+ الخط -
في اختيار طرابلس عاصمة للثقافة العربية لعام 2014، ما هو أعلى من المفارقة، وأكثر بلاغةً من اقتران المأساة بالملهاة. مع ذلك، فقد تسلّمت طرابلس مفتاح السنة الثقافية من بغداد المنكوبة في شهر فبراير/شباط المنصرم، وأعدّت ميزانية كي تموّل النشاطات الثقافية التي اتُفق على أن تنظمها وزارة الثقافة رفقةَ مؤسسات من المجتمع المدني. من السهل أن يستهجن المرء أمرًا مماثلًا، وأن يرى فيه نوعًا من العبث، فالبلد غدا نهبًا لأمراء الحرب والمليشيات المتصارعة، والناس تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة اليومية، فكيف يمكن التفكير بـ "الثقافة" أصلاً في بلدٍ يفتقر إلى الأمن، إذ تواجهه تحديات هائلة وضغوط كبيرة تفرض عليه أولويّات مختلفةً تمامًا؟ السؤال الأخير تحديدًا هو قبلة المستبدّين والطغاة ومن يشبههم - وهم كثرٌ -، وهو الهدف الأسمى الذي يعملون من أجل وصول الناس إليه عفويًا؛ أي أن تغدو الثقافة - سواء اتسع معناها الاصطلاحي أم ضاق- أمرًا زائدًا ونافلًا، مجرد ذكره، يثير الاستهجان والسخرية.
وكانت الثقافة في ليبيا قبل ثورة فبراير، بنظر القذافي وسلطته أمرًا زائدًا نافلًا، حتّى ولو نجح في تدجين بعض كتّابها سواء أكانوا ليبين أم عربًا (من ينسى تلك المجلدات الضخمة الثلاثة التي نظّرت لأدبه وأشبعته مدحًا بقلم نقّاد وكتّاب عرب شهيرين؟)، أو أمسك هو نفسه القلم وغدا كاتبًا وروائيًا ومنظّرًا، إلا أن ذلك لا يبدّد من نظرته الاحتقارية للثقافة. وليستْ تلك الجائزة التي أنشأها كرمى لـ "اسمه" إلا تعبيرًا آخر عن نظرته تلك؛ الثقافة وأهلها بحاجة إلى المال وأنا أملكه، فتعالوا إليّ.
وحين ثار الناس عليه، وطووا صفحته السوداء إلى الأبد، انكشفَ الوضع الثقافي في ليبيا؛ ثمة كتّاب ها هنا، وحياة ثقافية غبّ بداياتها الجديدة، بعيدًا من سطوة المستبد وسلطة الرقيب، قريبة من أجواء الحرية التي لوّحت الثورة بها لفترة قصيرةٍ، قبل أن تنقلب الأمور وتتدهور إلى قعر ينفتح على آخر، جرّاء ميليشيات الحرب وأمرائها.
الوضعُ كلّه يستحق التأمّل والتفكير في دور الثقافة والمثقّفين ضمن مجتمع عربي انتقل من طورٍ استبدادي إلى طور احتراب أهلي. ولن يكون مفيدًا على الإطلاق لوم المثقّف، لأن هذا يعني عودٌ على بدءٍ، إذ يضمر تلك النظرة الاحتقارية للمثقّفين، فهم ليسوا مطلقًا النخبة في مجتمعات مماثلة. هم النخبة في المجتمعات الديمقراطية فحسب.
ففي المجتمعات الديمقراطية واجب الدولة تمويل الثقافة، بقطع النظر عن المبادرات الفردية التي لا تبخل أبدًا في تمويل ثقافة مجتمعها (للمرء أن يتذكّر المعرض الضخم "فريز آرت" في لندن المموّل من القطاع الخاصّ). حيث إن معارض الكتب الكبرى، ومهرجانات السينما والمسرح الضخمة والمعارض الفنية، كلّها تموّلها الحكومات لا الأفراد.
وللمرء أن يرى فائض التمويل في تلك المنح المتناثرة يمينًا وشمالًا صوب كلّ ما يمسّ الثقافة - داخل البلاد وخارجها - من نشرٍ وأفلام وإقامات كتّاب ومساعدات مباشرة وغير مباشرة وغيرها من الأمور التي بتنا نحن العرب عارفين ببعض مساراتها من خلال منظمات خاصّة، من النوع "غير الربحي"، تزور أراضينا.
وللمرء أن يرى ارتباط تمويل الثقافة بالاقتصاد أيضًا من خلال تخصيص الشركات والبنوك الكبرى جزءً من ميزانيتها دعمًا للثقافة، ومن خلال مثلًا خصم جزءٍ من ضريبة الدخل مقابل تقديم الهبات والمنح للمكتبات الجامعية خصوصًا، كما يحدث في الولايات المتحدّة الأميركية. لكأن دورةً ثقافية انتاجية تمرّ عبر البلاد الديمقراطية، لتغدو الثقافة جزءاً لا يتجزأ من حياتها اليومية. دورة الإنتاج هذه أفضتْ على ما يبدو إلى استحداث فروع في الجامعة لتدريس "الإدارة الثقافية".
عالمٌ بأكمله يموج ثقافةً، حيث تتقاسم الدولة ومؤسسات المجتمع المدني عبء النهوض الثقافي، باعتباره واجبًا وطنيًا قبل أي شيء آخر.
أمّا عالمنا فيموج بقهرِ الناس واحتقار الثقافة؛ هي الأدنى رتبةً بقطع النظر عن "نوع" السلطة الحاكمة، أداعشيةً كانت أم مستبدّة.
ليستْ ليبيا ضمن هذا المنظور استثناءً في دنيا العرب، وليس المثقفون الليبيون بأقلّ من أشقائهم العرب اهتمامًا بالحيّز العام أو حرصًا على الثقافة، لكن ظروفهم الحالية الفظيعة والمريعة الناجمة من ثمرة زواج المستبد بالفوضى الأهلية، لا تترك مطرحًا للأمل، خاصّة وأن "الثورة" مرّت كلمح البصر. صحيح، مرّت الثورة خطْفًا، مرّت الثورة "حلمًا في الكرى أو خلسة المختلس"، لكنّها بمرورها الخاطف غيّرت الكثير بطريقة لا عودة عنها.



المساهمون