خطأ كارثيّ: فنون ملغاة من البث التلفزيوني

22 مارس 2019
تيلما شونمايكر: الفيلم يُصنع في غرفة المونتاج (فيسبوك)
+ الخط -
يتردّد صدى الفعل الذي به يُمكن لأمور كثيرة أن تتبدّل. المحطة التلفزيونية الأميركية ABC تطلب من "أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها" تقليص مدّة الحفلة الـ91 لتوزيع جوائز "أوسكار"، مساء 24 فبراير/ شباط 2019، إلى 3 ساعات. بهذا، تُريد المحطة تكثيف المُشاهدة، فتقترح توزيع جوائز التصوير والتوليف والماكياج/ تصفيف الشعر والفيلم القصير أثناء بثّ الإعلانات.

هذا جديد في التاريخ المديد للعلاقة القائمة بين الشاشة الصغيرة والحفلة السينمائية الأشهر في العالم. التبرير التلفزيوني غير مُقنع، رغم أن انتقادات مختلفة توجَّه مرارًا إلى الأكاديمية بخصوص طول مدّة الحفلة. كثيرون يرغبون في اختصار خطابات الفائزين بعد استلامهم جوائزهم. لكن طلب المحطة التلفزيونية غريبٌ، إذْ ينفي عن الجوائز تلك أهميّتها، معتبرًا إياها ثانوية أو غير ذات قيمة. ومع أنّ الجماهير السينمائية، بغالبيتها الساحقة، غير مكترثة بهذه الفئات المهنيّة، وغير منتبهة إلى العاملين في التقنيات التي تُشكِّل أعمدة أساسية في صناعة كلّ فيلم، إلّا أن تغييب منح هذه الجوائز عن البثّ التلفزيوني المباشر مُثير لجدلٍ مستمرّ لغاية الآن.

أول ردّة فعل إزاء المسألة، ينطق بها المكسيكي غيلّيرمو دِلْ تورّو: "التوليف والتصوير السينمائيّان هما في قلب الفنّ الذي نصنعه". الفرنسي غايل غولان، رئيس تحرير المجلة السينمائية الفرنسية الشهرية "بروميير"، يكتب في افتتاحية العدد 494 (مارس/ آذار 2019)، أن "تغييب العاملين في هذه المهن يعني تنكّرًا لخصوصية اختصاصاتهم"، و"رفضًا لرؤية جوهر السينما". أساسًا، لن يكون صائبًا تكرار ما هو معروف بخصوص تلك المهن السينمائية، وأهميتها الفنية والجمالية والبصرية. لكن المنطق التلفزيوني، المرتكز في جزءٍ كبيرٍ منه على مفاهيم الاستهلاك والتجارة والأرباح المالية السريعة، معنيّ بما يتوافق والجهد المبذول لرفع نسبة المُتلقّين عمومًا، ومشاهدي حفلة الـ"أوسكار" تحديدًا. المنطق الاستهلاكي التجاري غير مكترث بتفاصيل مهنيّة هي عَصَب الفن السابع، وتمنح الفيلم شيئًا كبيرًا من جمالياته، وتساهم فعليًا في تماسك البناء الدرامي. أما الفيلم القصير، فمنبوذ من المنطق التلفزيوني أصلاً، لأنه ـ بحسب المنطق نفسه ـ غير جاذب لأعداد كبيرة من المتلقّين، رغم ما يمتلكه من جماليات، ورغم ما يحتاج إليه من أدواتٍ هي نفسها تقريبًا تلك التي يحتاج إليها الفيلم الطويل.

ولعلّ التعليق الطريف، الذي يحمل في ذاته سخرية كبيرة في الوقت نفسه، يعكس شيئًا من حقيقة المخفيّ في كواليس المحطة التلفزيونية الأميركية ABC: إنّ سبب اتّخاذ القرار كامنٌ في أن الفئات هذه تحديدًا غير متضمّنةٍ أفلامًا مُنتجة من "ديزني"، مالكة المحطّة. مُطلقو التعليق يُضيفون باختصار شديد: "هذا خطأ كارثيّ". فالجميع يُدركون أن "هوليوود الجديدة" مثلاً مَدينةٌ في نشأتها، نهاية ستينيات القرن الـ20، إلى مُديرَي التصوير السينمائي الهنغاري الأميركي فيلموس زيغموند والإيطالي فيتّوريو ستورارو، اللذين يعملان مع صانِعِي تلك الموجة، السينمائيين براين دي بالما ودونيس هوبير وفرنسيس فورد كوبولا وستيفن سبيلبيرغ ومارتن سكورسيزي وجورج لوكاس ومايكل تشيمينو، على تجديد السينما الأميركية، بتحديث عملية إنتاج الأفلام الهوليوودية. والجميع يعلمون أن ما من سكورسيزي من دون المؤلِّفة الأميركية تيلما شونمايكر، وما من مايكل مان من دون مدير التصوير الأسترالي ديون بيبي. هؤلاء يقولون إنّ عباقرة السينما المكسيكية "يُمكن" أن يكونوا عاجزين عن تحقيق إبداعاتهم الرائعة لولا مدير التصوير المكسيكي إيمانويل لوبيزكي.



هذه أمثلة لن تُلغي مئات غيرها. صناعة "المحادثة" (1974) لكوبولا مرتكزة، بجزءٍ أساسي منها، على براعة المولِّف الأميركي والتر مورك. "العرّاب"، بجزءيه الأولين (1972 و1974) لكوبولا أيضًا، محظوظٌ بعمل المولِّف الأميركي بيتر زيمر. شونمايكر تقول إنّ الفيلم مصنوع في غرفة المونتاج. هذا معروفٌ. الغرفة المغلقة تبتكر فيلمًا يأتيها مُصَوَّرا فيخرج منها عالَمًا بصريًا متكاملاً من الأحاسيس والحالات والتأمّلات والمعاينات والمقاربات والسرديات. الكاتب والشاعر الكندي مايكل أونداتجي (روايته "المريض الإنكليزي" يقتبسها البريطاني أنتوني مانغيلا للسينما عام 1996 بالعنوان نفسه)، يقول عن والتر مورك (مولِّف "المريض الإنكليزي") إنه "استثناء حقيقي في عالم السينما، وروح أصلية من عصر النهضة"، مُضيفًا أن "هناك قلة نادرة في هوليوود يُمكن للمنتمين إليها أن يتحدّثوا عن بيتهوفن والنحل وعلم الفلك وغيدو داريزو (راهب بينيدكتي إيطالي، 992 ـ 1033) بطريقة عميقة للغاية، كتلك التي يتحدّث بها مورك".

هؤلاء فنانون يمتلكون حِرفية الإبداع. ابتكاراتهم تمنح المشروع السينمائي شرعية بهائه. يُقال إنّ الضوء الطبيعي هو "ضوء ربّاني". هذا وصفٌ لعبقرية إيمانويل لوبيزكي، بعد اشتغاله مع تيرينس ماليك عام 2012 في "إلى العجائب" (To The Wonder).
لكن المنطق التلفزيوني غير مكترث بأعمال هؤلاء. مع هذا، ألا يُمكن طرح سؤال أخير: هل هؤلاء مُكترثون، أصلاً، بالمنطق التلفزيوني؟
المساهمون