حيوانات سياسية متسخة

27 يوليو 2015
+ الخط -
في لقطة لها دلالتها الكبيرة، أقدم حكم وسط الميدان في أثناء المباراة الافتتاحية في مونديال البرازيل بين البلد المضيف ومنتخب كرواتيا، على إخراج بخاخ رسم به خطا جيريا أبيض على معترك المنتخب الكرواتي، يحدد المكان الصحيح الذي يجب أن يقف فيه خط دفاع الأخير، حتى ينفذ اللاعبون البرازيليون ضربة خطأ على مشارف مربع العمليات. 
وجاء لجوء حكم المباراة إلى هذه الطريقة الجديدة، بعد أن لاحظ عدم امتثال كامل لطرف من الأطراف لقانون اللعبة، ما اضطره إلى التدخل بتلك الطريقة غير المألوفة، أمام ملايين الجماهير لإحلال قانون اللعبة، وإنفاذه على وجه السرعة.
وهذا يعني أن على الحكم، مهما كان موقعه، سواء في رقعة ملعب أو في كرسي حكم أو على منصة عدالة أو في تدابير حزبية ومجتمعية، أن يتحلى، دائماً، بشجاعة اتخاذ القرار، والاستعانة بالوسائل الشفافة، لتحويله من حبر إلى فعل، ولو تطلب ذلك تسطير الحدود بالبخاخ الجيري للمتخاصمين أو للمتنافسين أو للمتصارعين، حتى يعرف كل واحد منهم حدوده التي عليه أن يلزمها ويلتزم بها.
لو نقلنا ذلك إلى الحياة السياسية المغربية، لكان ما استعان به حكم المباراة أحوج إلى ملاعب السياسة في هذا البلد الذي تمر فيه "حيواناته" السياسية من شتى فصول السعار السياسي الذي لا يكتفي فقط بارتكاب الأخطاء، بل الإصرار على عدم تنفيذ الجزاءات في حق المخالفين، وتلك هي المعرة الكبرى لقانون لعبة منتهك، وحكم مباراة غائب عن الميدان، وجمهور بدل أن يتسلى ويطور ذوقه بـ "الفنيات"، يجرفه الصراخ، وتشوش عليه الحركات البهلوانية في ملعبٍ بلا قانون، يتحول إلى سيرك مجانين.
وما عودة السجال العالي الصوت، المستعين بكل أشكال "الإغلاظ في القول" بين المتنافرين سياسياً، بعدما أصبحت الآجال الانتخابية نصب العين، إلا دليل قاطع على "الممارسة الثالثية" للعبة السياسية في بلادنا.
وهي ممارسة يجري استنساخها في عدد من البلدان التي عرفت هبوب رياح الربيع العربي وخريفه، رضخ فيها حكم المباراة، جزئيا، لقانون اللعبة، قبل أن يعاود استجماع قواه، ويلتف على المشهد من جديد. وفي أحسن الأحوال، أفسد شريعة الهجوم وشريعة الدفاع، وخلط بين الأهداف النظيفة والأهداف "الوسخة"، وانحاز هنا ليغلب هذه الجهة، ثم انقلب عليها، ليعيد تحجيمها في وضعها الطبيعي، من دون أن يمتلك فضيلة التسلح بالبخاخ الجيري، لرسم مربعات اللعبة وحدود المعتركات، وتطبيق القانون الذي وضعه، مرغما في لحظات الهبات الاجتماعية.
وحين لا يجري احترام أصول اللعب وقوانينه، يهوي كل شيء إلى القاع، ويتحول الجميع إلى مسوخ، كما يحدث، تماما، في مسرحيات فن الظل.
الفرق أحيانا، أن الأقنعة قد تقول الحقيقة، بينما الوجوه الممسوخة الحربائية صعبة الاستغوار، وهذا يذكّر تماماً بمسرحية الراحل، سعد الله ونوس، "مغامرة رأس المملوك جابر" التي يشحذ فيها الكاتب الكبير كل أشكال نقد الحياة السياسية العربية بالتهكم عليها والسخرية منها.
فجابر المملوك، الذكي، يسخر من الوزير ومن الخليفة ومن البطانة السياسية، ويكشف عن نفاقها وتقاتلها ومكائدها،
ويتجاسر حتى على حريم السلطان، ويكشف على أن خليفة بغداد ووزيره وجهان لعملة واحدة، لكنه، في النهاية، يسقط ضحية لذكائه، وينتهي، في المشهد الأخير من المسرحية، على المقصلة، حيث يجز السياف رأسه.
والحقيقة أن ذلك الواقع الذي رسمه سعد الله ونوس، وجهد في ترجمته في أعماله المسرحية التي تنتمي إلى المسرح السياسي، ومحاولته الكشف عن فحش الطبقة السياسية العربية ومسخها، لم يكن بعيدا عما يجري في الواقع الفعلي، كان بالفعل كاتبا يضرب في العمق، في ظل شروط لعبة لا تحترم أحدا.
6A0D14DB-D974-44D0-BAC8-67F17323CCBF
حكيم عنكر
كاتب وصحافي مغربي، من أسرة "العربي الجديد". يقول: الكرامة أولاً واخيراً، حين تسير على قدميها في مدننا، سنصبح أحراراً..