حين تسلّع الحياة الشخصية

19 سبتمبر 2020

(فاتح المدرّس)

+ الخط -

أنتمي إلى الجيل الذي عاصر مرحلة ما قبل اختراع الموجات الصوتية التي تكشف جنس الجنين، وهو لم يبلغ شهره الرابع في بطن أمه، والمرحلة التي تم فيها انتشار هذا الاختراع في بلادنا العربية، بعد انتشاره في العالم كله، والذي، على ما أذكر، أنه أثار موجةً واسعةً من الجدل الاجتماعي، تتعلق بمدى قبول رجال الدين أو رفضهم له، ومحاولة اعتباره بدعة وضلالة كونه يتعارض مع قوله تعالى "إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام.."! إذ اعتبر بعضهم أن في محاولة معرفة جنس الجنين تعدّياً على المعرفة الإلهية الفريدة، بينما اعتبر آخرون أن القرآن الكريم لم يحرّم ذلك، ولم يذكر أن الله وحده من يعلم ذلك! وظل الجدل مدةً لا بأس بها حتى انتهى لصالح العلم، أو ربما لصالح الفضول الإنساني في معرفة ما يخبئه ويجمله له الغيب. وربما أيضا هو السبب نفسه الذي يجعل الناس يتعلقون بمشعوذي الفلك وعلم الأبراج، ويتناقلون توقعاتهم مع بداية كل عام جديد، ويعودون إلى ما قالوه مع كل حدث استثنائيٍّ يخضّ البشرية كلها، أو جزءا منها. ولو توسّعنا أكثر لوجدنا أن النهاية التي تحكم البشرية، أي الموت، هي السر العظيم الذي يغذّي الفضول البشري، في محاولة للهروب منه أو تجنبه للبقاء على قيد الحياة أطول مدّة ممكنة، إنها غريزة البقاء وقوة الحياة، تزيل العقبات التحريمية أمام الفضول البشري، والمحاولات العلمية الحثيثة لجعل الأسرار الكونية مباحةً أمام الجميع.

حين حملت بابنتي الوحيدة قبل 33 عاما، عرفت أن جنيني أنثى. وهذا جعلني أشتري ما تحتاجه المولودة الأنثى قبل ولادتها، وأختار لها اسما أناديها به لحظة رؤيتي لها. بالتأكيد تسهل معرفة جنس الجنين مسبقا أمورا كثيرة على العائلة، وتتيح الوقت الكافي للعناية به أول ولادته، إذا ما كانت حاجياته ومستلزماته جاهزةً مسبقا، هذا الامتياز الذي لم يكن متاحا لأهالينا، من مختلف الطبقات والشرائح، سواء أكانوا أبناء ريف أو مدن، متعلمين أو لا، مرتاحين ماديا أو فقراء، كان الأمر ذاته يولد الجنين، وستكون الفرحة الكبرى عندما تطلق القابلة القانونية أو الداية أو مساعدة الطبيب المولد الكلمة المنشودة: (ولد) حاجيات الجنين (الفوط واللفة) ستكون جاهزة. ومن باب الفأل الحسن كان بعضهم يختار اللون الأزرق، المخصّص للولد الذكر، كانت معظم حاجيات المولود بيضاء بالكامل، تناسب الذكر والأنثى. 

بيد أن شأن معرفة الجنين قبل ولادته أمر محض شخصي، لا يهم سوى أفراد العائلة والمقرّبين. لماذا سأهتم، مثلا، بجنس المولود الذي تحمله جارتي، وأنا لا أكاد حتى ألقي عليها التحية؟ ما هو المبرّر لأسألها عن جنس جنينها؟ ما الذي يعنيني في ذلك؟ أو كيف سأتلقى إخبارها لي عن جنس جنينها لو أنها طرقت بابي لتخبرني بذلك؟ ربما سأقول لها: مبروك متمنية لها السلامة لها وللجنين، ولكن بيني وبين نفسي سوف أشعر بالغرابة، ما علاقتي أنا بجنس جنينها الذي لم يأت إلى الدنيا بعد؟ 

ربما جعلتنا وسائل التواصل الاجتماعي نتخلى عن كثير من خصوصيتنا. باتت تفاصيل حياتنا مكشوفة أمام آخرين نعرفهم ولا نعرفهم. هذه واحدة من أكبر ضرائب ثورة الاتصالات الحديثة، واستخدام البشر المفرط لتقنياتها، يضاف إلى ذلك طبعا ما حدث بعد 2011 من هجرة كثيرين من شعوب بلاد الربيع العربي، إثر افتراقات مساراته، وتشتتت العائلات والأصدقاء في بلاد العالم، بحيث صارت وسائل التواصل بديلا مهما، ويكاد يكون وحيدا عن اللقاء الواقعي. ربما يبرّر هذا كشف ما هو شخصي للعلن، كالحب والزواج والطلاق والولادة، وحتى جنس الجنين. ولكن أن يتحول الشخصي إلى إعلان مدفوع الثمن، بمبالغ باهظة، وأن يتم اعتبار أمر كهذا سلعةً مباعة في برنامج على "يوتيوب" فهو لا يختلف عن استخدام الأطفال في عمالة غير مشروعة، والتجارة بهم.

لستُ في وارد مناقشة سخافة ورداءة محتوى ما يقدّمه بشر يعتمدون، في معيشتهم، على استخدام حياتهم الخاصة وأطفالهم وسيلة جذب جماهيرية تافهة، ووسيلة للكسب بطرقٍ غير لائقة، لكننا يبدو أننا في زمن التسليع، إذ تنعدم القيم الأخلاقية والإنسانية البسيطة، تلك التي تقي البشر من الانحدار نحو التشيّؤ الذي يجعل برجا مملوكا لدولةٍ يتلوّن باللون الأزرق ليخبر البشرية أن عائلةً لا يعرفها أحد تنتظر مولودا ذكرا! (وااااااااو). يا لهذا الخبر المهم للبشرية.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.