حنين إلى الجزائر القديمة

حنين إلى الجزائر القديمة

01 يوليو 2017
أجيال في قصبة الجزائر (باتريك باز/ فرانس برس)
+ الخط -
قبل أيام، توجّه العمّ محمد أمقران إلى حيّ القصبة العتيقة في أعالي العاصمة الجزائرية، حيث ترعرع وكبر وتزوّج من بنت الجيران القدامى. زيارته لمكان الصبا والشباب "ليست عادية" بحسب ما يشير لـ "العربي الجديد"، خصوصاً أنّها تأتي بعد غياب دام 15 عاماً. يقول: "أحنّ إلى بيت والدي في القصبة، وأحنّ إلى ضربات المطرقة الصادرة من دكان عمي سالم النحاس، وأحنّ إلى مياه حنفية الحيّ في قلب حواري القصبة".

يضيف: "أعيش هناك لكنّني أحنّ إلى هنا"، فهو بنى له منزلاً في تيزي وزو. وحنينه ذلك يربطه بأنّ القصبة ومواسمها وأعيادها وأفراحها وأحزانها تختلف عمّا هي الحال في الحيّ الذي يسكنه، مؤكداً أنّ "هنا مسقط رأس أجدادي الذين استقرّوا في القصبة قبل قرنَين من الزمن آتين من جبال جرجرة".

ما زال العمّ محمد يحفظ حواري القصبة العتيقة على الرغم من سنّه التي تجاوزت الثمانين، ويحنّ إلى المقهى الشعبي حيث اعتاد أن يرتشف فنجان قهوة بماء الزهر أو كأس شاي بالنعناع. ويتذكّر "كيف كانت أصوات التجار المتجولين والأغاني الشعبية تصدح في حيّنا"، ويلفت إلى أنّه ما زال يحفظ بعضاً من تلك الأغاني. ويتحسّر على "أيام زمان. فثمّة فرق كبير بين الزمن الذي مضى والزمن الذي سوف يأتي. والسنة التي تنقضي أفضل وأحسن من السنة التي تليها".

تتشابه قصص كبار السنّ وهم يتحدّثون عن الحنين وعن الماضي، فكلماتهم تخرج من القلب لتروي حكايات الأيام التي قضوها في الحواري الضيقة والأحياء العريقة التي تبقى حتى اليوم رمزاً من رموز المدن الجزائرية.

تتحدّث الحاجة سكينة لـ "العربي الجديد" عن "مدينة السويقة" أيّ قسنطينة القديمة التي تُعرَف كذلك بـ "مدينة الجسور المعلقة"، وهي عاصمة الشرق الجزائري. تقول: "ترعرعت هناك وأشتاق إليها وأحنّ إلى بيت والدَيّ القديم. فهو انهار كلياً ولم يبقَ منه سوى الحجارة وبعض الخشب والأعمدة المتهالكة. أمّا الجيران، فكلّ واحد منهم انتقل إلى بيت جديد في المدينة الجديدة المسماة عين الباي أو قسنطينة الجديدة". تضيف أنّ الأخيرة "احتضنت العائلات التي كانت تسكن في منطقة السويقة العتيقة والتي رُحّلت بسبب انهيار معظم البيوت القديمة في الحيّ العتيق". وتستعيد الحاجة سكينة السبعينية حكايات عن حيّها "حيث كان الجميع يفرح لفرح عائلة ما ويحزن لحزنها، فيما يعاون سكانها بعضهم بعضاً". وتتحسر على مدينتها وبيتها القديم الذي شهد كل أفراحها وكذلك أحزانها، إذ منه خرجت بناتها عرائس وفيه استقبلت زوجات أبنائها، كذلك ذاقت حزن فقد الزوج. يُذكَر أنّ السويقة تعني كذلك موسيقى المالوف، وهي الموسيقى الشعبية لمنطقة قسنطينة التي تصدح في كل محلات الحي العتيق ودكاكينه، خصوصا أغاني الفنان الراحل، الشيخ محمد الطاهر الفرقاني الطي، الذي يتغنى بمدينة الهواء والريحان. وتلك الأغاني يحنّ إليها سكان الشرق الجزائري بمعظمهم.



غير بعيد عن قسنطينة، يتحدث البشير بن عبد الرحمان لـ "العربي الجديد" عن مدينة صغيرة ما زالت إلى حدّ اليوم تجذب كل من سكنها قبل نصف قرن من الزمن، هي مدينة ميلاف أو ميلة القديمة التي تعود إلى زمن الرومان والتي تحتضن أول مسجد بني في الجزائر. يضيف عبد الرحمان لـ "العربي الجديد" أنّها "تضمّ عشرات البيوت والمساكن القديمة، التي ما زالت عائلات عدّة تسكنها حتى اليوم. وهي ترفض ترك مساكنها لأنّها ترفض ترك بيوت الأجداد على الرغم من أنّها آيلة للانهيار".

ويتابع أنّ "ثمّة مَن عمد إلى إصلاحها حتى يتمكّن من العيش فيها وتفادي مخاطر سقوط حجارتها، وثمّة مَن رحل عنها غير أنّه يعود إليها كلما سنحت الفرصة". وحنين بن عبد الرحمان السبعيني إلى المدينة العتيقة يعيد إليه أين درس في فترة الاستعمار الفرنسي، ويتذكّر أصدقاءه في المدرسة وأصدقاء الحيّ وجيرانه وغيرهم من الأشخاص الذين ودّعوا المدينة وغادروها قبل سنوات وقد انتقلوا إلى مناطق أخرى، ومن بين هؤلاء مَن فارق الحياة.

تجدر الإشارة إلى أنّ الحيّ القديم في مدينة ميلة هو الحيّ الذي عاشت فيه العائلات الأصلية للمدينة، والذي خرج منه ثوار كبار من شهداء الثورة الجزائرية ضدّ المستعمر الفرنسي. والحيّ الأثري ما زال حتى اليوم يستقطب السياح من كل مكان، بينما يشهد إهمالاً كبيراً بعدما غادره سكانه الأصليون.

دلالات