حكومة ستي ووزراؤها

08 نوفمبر 2016
+ الخط -
كانت ستي، رحمة الله عليها، لا تتركُ شاردةً ولا واردةً إلا وتدلو بدلوها فيها، فقد كانت حكومةً متنقلة. في الصباح، تستمعُ إلى الراديو بعد صلاةِ الفجرِ وحتى بزوغِ شمسِ النهار، تحفظُ الأخبارَ، وتبدأ بتحليلها وتراقبُ ردةَّ فعلِ نساءِ الحارةِ والجارات، وتتابعُ آخرَ التطوراتِ في الأنحاءِ كافة. تصل أخبارُ ستي إلى كلِّ بيتٍ، فلها من الأبناءِ والبناتِ ما يكفي لنقلِ أخبارِها وتحليلاتها إلى كلِّ بيت، فلديها القدرةُ على الإقناعِ من خلال أفكارِها الخلابة والجذابة، ولها وسائلُها في التأثيرِ على الآخرين، في امتلاكِها موهبةَ الخطابةِ باللهجات واللكنات كافة. ستي مشروعٌ قوميٌّ اندثر ولم نعرفْ قيمتَها إلا بعد أن فارقت الحياة، وتركت لنا إرثاً وطنيا كبيراً لم يستطع أحدٌ أن يحملَهُ حتى الآن.
ترأست ستي الحكومةَ، وجلست على مقعدِها الكبيرِ، وهي ترفعُ شعاراتِ الحب "حبي وحبك في قاع قنية وحسبنا بالله على يلي يخلف النية". لا أحد من الوزراء قادرٌ على أن يخلفَ النية أو ينكرَ الجميلَ، أو يفكرَ أن يرفعَ رأسَهُ، ويقول لا لقراراتِ ستي التي كانت بمثابةِ القراراتِ المقدّسةِ التي تنبعُ من وحيٍّ مقدسٍ أوحى به إليها من تحت الأرض، أو من فوقِها.
أصبحت ستي القائدَ الكبيرَ الذي يحكمُ أركانَ البيتِ من يمينه إلى يسارِه، وشكلتْ وزاراتٍ وأصبح لديها حشمٌ وخدمٌ، لقد أبدعت ستي في ترتيبِ بيتها، وارتفعت طوابقَه، حتى وصلَ الأمرُ إلى بناءِ بيتٍ جديدٍ للحيوانات في حديقةِ البيت، تربي الكلابَ والذئابَ والثعالبَ والقططَ والغزلان والخرفان. بحنكتِها السياسية جعلتهم سواسيةً، ولا يخشى الخروفُ على نفسِهِ إلا سكين ستي وليس الذئب.
لم تعدْ ستي كما مضى. أصبحت لا تستمعُ إلى الأخبارِ، فهي الآن تصنعُ الأخبارَ، وتتحكّمُ في طبيعتِها، لها مستشارون إعلاميون وأخصائيون نفسيون ومحللو رأي عام وخبراء اقتصاديون، لديها أركانُ الدولة تعيش العظمة والقوة، لها أمولٌ في الأرضِ ودعوات في السماء.
عايشت ستي جميعَ الوزراءِ، مريضهم وسقيمهم، فهيمهم وغبيهم، كبيرهم وصغيرهم، لم تجدْ فيهم إلا مجموعةً من الأغبياءِ يسترزقون، ويقدمون ولاءَ الطاعةِ في الصباحِ، ويقبلون الأيادي في المساء. لم تحسبْ لهم أيَّ حسابٍ، إلا لذاك لشاب الصغير، فهي ترى فيه مشروعَ قائدٍ ناجحٍ، وهو يرى في نفسِه مشروعَ متمرّدٍ كبيرٍ، تخشى عليه أن يقتلَه طموحه بأن يكونَ عصا غليظةً في يدِ الكبارِ يُجلدُ بها الصغار. عاش تحت أركان ستي أياما وليالي، عاش في ظل عرشِها حامياً ومحمياً، تقرّب إليه الصغيرُ والكبيرُ. حصل على لقبِ الابنِ المدلل، لعلك تتذكرُ ذلك يا بني إنني لن أبقى لك طويلاً، لعل الحياةَ ومدرستَها تتغيّرُ والتعليم يتغيّرُ والمنهج يتغيّر ولن تجدَ من ينفعُك سوى أصدقاءِ السوء!
أين تجدُ أصدقاءَ السوءِ في زمنٍ أصبحت فيه الذئابُ تأكلُ من صحنِ الخراف، البحثُ عن استحداثِ قائمةٍ جديدةٍ من أصدقاءِ السوءِ بدأت بمرضِ ستي واعتلالِها، وعدمِ قدرتِها على السير. جاعت الذئابُ والكلابُ، وبدأت تخافُ الخرافُ، وهربت الغزلانُ، وأعلنت حالةَ التمرّدِ والحربِ في بيتِ ستي .
دقت ساعةُ الحربِ، وخرجت الثعالبُ لتنثرَ مكرَها على قبرِ ستي، وتفرق ما جمعت طوال سنواتِ عمرِها، فقد قسّمت الكلابَ إلى مجموعتين، والذئابَ إلى ثلاثٍ، ووضعت كلباً كبيراً حارساً على بابِ الخرافِ كي يحميَها، واعتلت القططُ أسطحَ المنازلِ والجدرانِ تنتظرُ وتترقبُ معركةً مصيريةً على ميراثِ ستي التاريخي، على بيتِها وأرضِها ومالِها ومدخراتِها.
لم تكن المعركةُ سهلةً، فالجيرانُ أيضا ينظرون، والأقاربُ يترقبون، والحلفاءُ مستعدون، والغرباءُ يحفرون. سقطت ستي وسقطت دولتها من بعدِها. تفرّقَ أبناؤها وضاعت هيبتُهم بين أقرانِهم. لقد شَمِتَ الأقاربُ، وفرحَ الغرباءُ وتكالبوا على أملاكِ ستي، وبدأت الأركانُ بالانهيارِ في كلِّ مكان.
ضاع تعبُ أربعين عاما وأكثر من البناءِ في غمضةِ عينٍ، ألا يا ستي تفيقين من جديدٍ، وتعودين ولو يوما واحداً من الموت، لتري ما فعل الغرباءُ والأقرباءُ بنا؟ أصبح الوطنُ وطنين والحكومةُ حكومتين والشعبُ شعبين والعاصمةُ اثنتين أو أكثر، والفقرُ واحداً والظلمُ واحداً، والنصرُ بعيدَ المنالِ، وما يفرقُنا أكثرُ مما يجمعُنا، ولنا سفارةٌ هيكلُها من الشمعِ، وشبه سفينة لا يركبها إلا ابنٌ عاق يبحرُ بها بنفسِه تارةً ميمنةً وأخرى ميسرة، يديرُ دفتَها نحو العاصفةِ والأمواجِ العالية. أصبح الحلمُ وهماً يا ستي، فلا حديثَ عن الثوابتِ، ولا حديثَ عن العاصمةِ وقضيةِ اللاجئين وعودتهم لم نسمعْ عنها منذ زمن.
بموتِك، يا ستي، مات الوطن، وبقي لنا ذكرى نمجّدُ أركانَها كلَّ عامٍ بصورةٍ أو يافطةٍ معلقةٍ تذوبُ في كلِّ شتاءٍ، ويبقى أنّ أحلامَك أيضا لن تتحققَ، ولن يكتملَ حلمُك بها، ولن يكتملَ، طالما بقيت القططُ تنتظرُ الفائزَ من معركةِ الكلابِ والذئابِ، والحَكمُ ثعلبٌ.
8981FDE1-0454-4CBC-894E-2351C53A26E0
8981FDE1-0454-4CBC-894E-2351C53A26E0
أشرف أبوخصيوان (فلسطين)
أشرف أبوخصيوان (فلسطين)