حكايات مع آذار

18 مارس 2015

من زهور آذار (Getty)

+ الخط -

كل هذا الربيع المجنون بالورود والزنابق حولنا في شهر آذار الذي يقال إنه شهر ميلاد العظماء لا يمكن أن يمحو آثار غيابهم، لكنه يهتف بنا أنني أعطيت وأخذت، فلا يمكن أن أوصم بأنني آخذ منكم فقط، ولكني حين آخذ الأحبة، ومن يتركون بصماتهم في حياتكم، فاعلموا أن أرواحهم تزهر في السماء، لأنها ارتقت خلال أيامي على مر الزمان، وأنني حين أعطي، لا أعطي العطاء المعتاد.

ويصدق آذار في دفاعه عن أيامه، ففي يومه الثالث عشر من عام 1941، ولد الغائب الحاضر، محمود درويش، والذي أمسى الشعر بعده يتيماً، لأنه أسس لانتماء إنساني للقضية الفلسطينية، جذب إليها غير الفلسطيني منبهراً أيضاً. ولي مع درويش حكاية، حيث اعتقدت، في صغري، أنه ابن عمي، فقد كان عمي الذي هاجر إلى لبنان في 1956 يطلق على أبنائه أسماءً مركبة، ولما علمت أنه أطلق على ابنه اسم محمود درويش، طرت إلى المدرسة، أخبر زميلاتي أن محمود درويش هو ابن عمي، وكان الاحتلال الإسرائيلي يمنع وصول كتبه إلى غزة، بدعوى أن أشعاره تحريضية، ولم أحفظ من أشعاره إلا كلمات أغنيات قليلة لمارسيل خليفة من الإذاعة، وبدأت محاولة أن أكتب شعراً، معتقدة أن الشعر يورّث، وكنت أقف في ساحة المدرسة أقرأه على زميلاتي، ويصفقن لي، ويحترمنني ويعاملنني كأميرة. ولكن جلسة أخرى مع جدي كشفت لي أنه ليس ابن عمي، لأن عمي أنجب ابناً آخر سماه أحمد شوقي، وطرت لزميلاتي أخبرهن الحقيقة، لكنهن ركضن خلفي في ساحة المدرسة، وهن يتهمنني بالنصب والتحايل، وأفلتت ضفائري من أيديهن بأعجوبة، لكن علاقة جديدة مع الكلمة ولدت بداخلي مع نفي صلة القرابة المزعومة.

وفي الخامس عشر من آذار، ولد الكاتب المقدسي، محمود شقير، ولتصبح قصصه المتراصة، بأدب جم، على رفوف مكتبة مدرسة "الأونروا" وجبتي في أوقات الفسحة المدرسية، قبل أن تمر السنوات، ويصبح شقير معلمي فعلاً، فقد كان يوجهني ككاتبة ناشئة، وينصحني، بكل تواضع وأناة، وكلما كبر اسمه زادت بساطته، على النقيض من الكثرة المخاتلة التي تتعالى على الناس، وسوف تطويها الذاكرة حتماً، فما كتبه شقير تحديداً عن القدس سيبقى خالداً، وهو، بالمناسبة، يحرص على إخفاء تاريخ ميلاده بقوله: لا أحب أن أشهر تاريخ ميلادي، "بلاش غلبة"، يكفي ما لدينا من "غلبات".

وفي الثالث عشر من آذار، كان موعدي مع أمومتي المبكّرة، ومع مشاعر جديدة ومسؤولية كبيرة، فأن تصبحي أماً صغيرةً، لا تعرفين كيف تتدبرين أمرك مع الكائن الهش الضعيف الراقد بجوارك، يعني أنك ستخوضين تجربة ستقلب ميزان حياتك، وربما تشكلها بصلادة إلى الأبد.

وفي الثالث عشر من آذار هذا العام، وفيما يحتفل العالم بعيد ميلاد درويش، ترجل فارس من فرسان الساحة الأدبية، هو الشاعر والناقد، عبد الله رضوان، ابن قرية بيت محسير، والذي لم يحقق حلمه بزيارتها، مثل كل المهجرين من فلسطين، فغيبه الموت مخلفاً إرثاً أدبياً واسعاً، وقلوباً ستظل تلهج بالعرفان والامتنان له، لأنه كان سنداً وعوناً لمثقفين شبابٍ كثيرين، ولم يتوقف يوماً عن بذل وقته وصحته وماله، من أجل دعم الثقافة ومبدعيها، وأنا ممن له الفضل عليَّ، إذ دعمني ووجهني وساندني، وهو يعي جيداً كيف أن كاتبة في غزة المحاصرة تكون مثل الغريق الذي يجود بأنفاسه في قعر بئر.

وفي أواخر أيام آذار في عام 2010، رحلت أمي، سر وجودي في الحياة، بعد أن أمضت نحو شهر في غيبوبة، وبمصادفة عجيبة، كما حدث مع عبد الله رضوان، لأسترجع ذكريات مؤلمة، حين نقف عاجزين عن إيقاظ من نريدهم حولنا ومعنا، فقد رحلت أمي مع آذار المشفوع بالرحيل الذي يزرع ذكرياته في قلوبنا، شعراً ونثراً، وفرحاً ودموعاً وحنيناً.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

دلالات
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.