حكايات الأحد الحزين.. رب الدولة لا يستطيع حمايتها

11 ابريل 2017
(قرب المرقسية، الأناضول)
+ الخط -

مئات الألوف من الآحاد مرت قبله، وأخرى ستأتي بعده، لكنه سيظل حاضرًا، مهما مرت السنوات، ستبقى أحداثه عالقة في الأذهان، ورائحة دمائه ستظل شاهدة على ما دار في صباح "أحد الشعانين" الموافق للتاسع من إبريل/ نيسان 2017، حين دخل العشرات من أقباط مصر للصلاة في كنيستي مارجرجس في طنطا، والمرقسية في الإسكندرية، ولم يخرجوا.

أكثر من أربعين أسرة لن تحتفل بعيد القيامة هذا العام؛ أربعون ضحية سيعيدون رسم طريق آلام المسيح، ليستبدلوا تاج السعف، رمز الفرحة والسرور، بآخر من الشوك، تعبيرًا عن العذاب والاضطهاد. قبل ألفي عام، صُلب المسيح، وبعد ألفي سنة يعود أبناء الرب غرباء في الأرض، يديرون خدهم الأيمن في طنطا والإسكندرية قبل أيام من قيامة المسيح، لمن قصد إيذاءهم على الخد الأيسر في البطرسية بالعباسية قبل أيام من ميلاده، فلا تنفعهم محبة زائفة، أو تعاطف زائل ويبقى "اللي في القلب في القلب يا كنيسة".

أربع فتيات في مترو الأنفاق بالقاهرة، عصر العاشر من إبريل، يوم ونصف فقط مر على المأساة، شهدت خلالها القاهرة أحداثا صاخبة، انتهت بفرض قانون الطوارئ، وبقرار هالة وجانيت، وفيفيان ونورا بألا يرتدين السواد حدادًا على ما حدث في الكنائس، وأن يخرجن إلى العالم يواجهن قبحه وفتنته، بشعر مكشوف، وصليب معلق على صدورهن.

جلست الفتيات على مقعد المترو، في العادة لا يتسع لأكثر، وفي أوقات الذروة واشتداد الزحام يمكن للصدور أن تتسع لراكبة خامسة تلاصق الأربع: "ممكن توسعوا شوية وتاخدونا جنبكم ولا خلاص هتقعدوا براحتكم عشان الطوارئ؟". ألقتها الراكبة متهكمة، لكنها أشعلت عربة السيدات بالمترو، ارتبك الجميع في محاولة للسيطرة على الموقف المشتعل بين الفتيات الأربع اللاتي هالهن ما سمعنه:

"إنتي بتتريقي علينا. مش حاسة بمصيبتنا؟ إحنا عملنالكم إيه في البلد دي عشان تقتلونا؟ عاوزين تقوّمونا وتقعدوا مكانّا ليه؟ إحنا زي بعض في البلد دي وإحنا قبليكم فيها"، بصراخ هستيري وغضب مشتعل استمرت المعركة تحت الأرض لثلاث محطات، ثم انتقلت إلى خارجها وعلى سلم المحطة.

في الطريق لشراء ثياب العيد، استمرت هالة وجانيت في السب واللعن، والبكاء، بينما كانت فيفيان ونورا ترسمان الصليب على صدريهما في محاولة لتهدئة الأعصاب، داعين الرب ألا يتسبب ما حدث في جلب مشاكل أكثر لهما.

كل آثار العيد المرتقب، محتها الدماء، فلا وقت للاحتفال، ولا رغبة في استمرار التظاهر بالفرحة. حاولت هيام مرارًا أن تنسى ما حدث في بطرسية العباسية قبل أيام من عيد الميلاد الماضي، لكن ذلك الجزء المستأصل من جسدها يذكرها بأن قنبلة انفجرت في صباح جمعة ديسمبرية، كانت سببًا في استئصال طحالها وجرح لم يزل يؤلمها مع كل حركة. حالة هيستيرية انتابت المرأة الأربعينية عند سماعها لخبر القنابل المتتالية في طنطا والإسكندرية. انزوت في ركن الغرفة، وتقوقعت في جدارها، صرخت في أطفالها كي يبقوا بجوارها، تحميهم وتحتمي بهم، منذ قنبلة الميلاد لم تذهب إلى الكنيسة، وبعد قنبلة الشعانين لن يذهب أطفالها: "مش هيروحوا والرب يقبل صلاتهم وتقديسهم وإحنا في بيوتنا.. الرب هيرحمنا لكن المسلمين لأ".

 النسيج الوطني، عاشت وحدة الهلال والصليب، الإسلام دين التسامح وتقبّل الآخر، كلها شعارات لم تعد لها أي دلالة لدى هيام: "أنا وجوزي قدمنا على طلب هجرة لكندا وخلال شهور هنكون بعيد عن البلد دي وكل اللي فيها، وساعتها ولادنا يقدروا يحتفلوا بالعيد". أخشى ما تخشاه أم الطفلين ماريان ومايكل ألا تمهلها القنابل حتى موعد الرحيل: "إحنا عاوزين نعيش".

"سلامًا أترك لكم.. سلامي أعطيكم.. ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا.. لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب". هكذا وعد المسيح أبناءه، فمنحهم قلبًا لا ترهبه المخاوف، ونفسًا لا تهزمها المصائب، وروحًا لم تزل قادرة على التسامح والدعاء للأعداء والصلاة من أجلهم وطلب المغفرة ليفتح الرب لهم أبواب الملكوت فتشلمهم رعايته "اذكر يا رب الإرهابيين الذين يحبونك.. ويقدمون حياتهم من أجلك.. ولكنهم يجهلون معرفتك... اذكر يا رب من حرّض ومن خطّط ومن نفّذ ومن هلّل، أنر يا رب نفوسهم كي يعرفوك بالحق، أنر يا رب عقولهم كي يعرفوك بالعدل.. أنر يا رب أعينهم كما فتحتها لشاول.. أعنهم.. اعضدهم.. اقبلهم.. ارفعهم.. فأنت من سامحت اللص اليمين بعدلك.. وتصالحت مع السومرية بحنانك.. فلا تنس هؤلاء الإرهابيين".

هكذا دعا الأنبا رافائيل في صلاته بعد أحداث البطرسية، بينما كان لبيشوي، الشاب العشريني، دعاء آخر فيسبوك: "لم يستوصوا بنا خيرا يا رسول الله". يذكر رامي حديث النبي محمد في وصيته لصحابته عند فتحهم "أرض يذكر فيها القيراط.. فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لكم فيها ذمة ورحمًا"، بعد أكثر من 1400 عام، لم تعد وصية النبي قابلة للتنفيذ في أرض القيراط، فبعض مؤمنيه يتقربون إليه بذبح أقباطها مرة، وبتهجيرهم أخرى، وبتفجيرهم وكنائسهم مع كل عيد، لا يبحث رامي عن الشهادة التي سترسله لملكوت الرب، كما يتحدث القساوسة، ولم يعد يهمه أن يلقى الرب ضاحكًا مبتسمًا لأنه نفذ وصيته فأدار خده الأيسر لمن ضربه على خده الأيمن، فالرب لم يجلس على كرسي وائل الإبراشي، ولم يحاور لميس الحديدي، ولم يصفق للرئيس في كل مرة كان يدخل فيها الكنيسة بعد كل حادث، لم يهلل اليسوع "تحيا مصر" رغم تألم أبنائه واضطهادهم، الرب الذي في السماوات لن يرضى أن يموت رامي جراء قنبلة يلقيها أحدهم ثم يصرخ رئيس الجمهورية محذرًا أن يتحدث أحد عن التقصير الأمني: "مفيش أعياد للمسيحيين في مصر خلاص.. والكنيسة هتفقد الحشد اللي كانت بتقدر تقاوم به كل الأحداث السيئة اللي بتحصل من أول وصول السيسي للحكم عشان تقول إنه هو ده اللي هيخلصها من اضطهاد الإخوان، وللأسف إحنا بقينا مضطهدين في عهده أكتر". في العيد القادم بعد أيام، سيحضر رامي القداس منفردًا دون زوجته أو ابنه أو أمه وأبيه: "هنحافظ على أرواحنا جوه بيوتنا.. طالما بيوت الرب الدولة لا تستطيع حمايتها".

المساهمون