حصار مخيم اليرموك والمؤامرة الكونية

حصار مخيم اليرموك والمؤامرة الكونية

04 ابريل 2015
+ الخط -

الحصار أشبه بمطاردة ماراثونية مع الفلسطيني، اللاجئ على وجه التحديد. ثمة وجهان لمأساة ذاكرة الحصار، وجه يرفع في نهاية المشهد إصبعين مهشمين ونازفين إيذانا بالانتصار، ووجه يخفي ما يحفره الزمن عميقا في الذاكرة والوجدان.

بيروت حوصرت فيها ثورة الفلسطينيين وانتهى الحصار بمذبحة صبرا وشاتيلا، ثم ما لبث، أن حوصر مخيم اليرموك 750 يوما، أعيد الحصار المرافق لفتاوى أكل القطط والجرذان بأيد ولسان عربيين. وتلك مرة أخرى من مرات فرح شارون في لعبة "الموت للفلسطينيين" وترديد بيغين: عرب يقتلون عربا.

الحصار الأشد قسوة هو ذلك الذي ترفع فيه شعارات "رد المؤامرة الصهيونية" على حق العودة والتفريط بالقضية. إذ إن التبرير السقيم يظل قتلا باسم فلسطين ذاتها.

في حصار شارون لبيروت كان العدو المحاصر واضحا، لكن أقبح أنواع الحصار أن يأتي من يستكمل قتل الناس، قصفا وقنصا وتجويعا، باسم رد المؤامرة.

المُحاصِر يطلب منه أن "يبرد رأسه"، فالقضية التي لا تعلمها "الحاجة سمية" وهي تعيش تغريبة آخر العمر من مخيم اليرموك هذه المرة، هي أنها ليست إلا "مرتدة" جاء "جند الخلافة"، بمعية محاصر واضح المعالم، ليردوها إلى "الصراط المستقيم" بقطع رؤوس أحفادها. وهم ذاتهم الذين ولدوا من صلب رجل وقف بوجه شارون في خلدة جنوب بيروت دفاعا عن حقه في فلسطين ذاتها التي يحاصر شعبها باسمها.

الأمر ليس بمثل ذلك التعقيد الذي تحيله السياسة، وما يرافقها من خطب إعلامية منذ 3 سنوات، لا أحد في زمن الحصار يسأل: كيف أصبح داعش يجتاح اليرموك؟ ألم تسمع خطاب الرهط المبرر، فلسطينيا وعربيا، للحصار، بحجة أن "الأفغان" المتطرفين هم من كانوا في اليرموك حين قصفته طائرات ميغ؟


مشكلة الحصار ليس أن بعض يسار فلسطين فقد بوصلته، وليس لأن المواجهة محتدمة بين جند الخلافة وجند العلمانية، ولا كل ما تسوقه نظرية جماهير الفرجة.
المخيم ببساطة لا يعني لأهله كل دهاليز السياسة. ما يعنيه هو رمزية وجوده، هو اختزال فلسطين الباقية كما كانت حين حدثت نكبتها وجرتهم إلى تغريبة الفرجة الفنية في كلاكيت تلفزيوني أفزعته لاحقا حالة ثورية.

اقرأ أيضا:
مأساة اليرموك: الأهالي يدفعون ثمن تقدّم "داعش" وحصار النظام


هو المخيم الذي تسير في أزقته بشوارع فلسطين، مدنها وقراها وأعلامها. شوارع المخيم ومساجده تحمل مع أنديته الرياضية والثقافية، على تواضعها، سمة صمود ذاكرة وإرادة أجيال.

المخيم هو مأوى الالتئام من شتات التغريبة، ومأوى الحالمين العرب بغد، مأوى الراحلين تحت القصف إلى بيوته ومدارسه، مأوى مجانين الزمن العربي الخانق لإبداعاتهم، هو كان كذلك في بيروت وبقي في جنوب دمشق. وهو الذي يحتضن بين وسطه وجنوبه مقبرتي شهداء.

لم يخطر ببال غسان كنفاني الموت غرقا في رحلة قطع المتوسط، فموت اللاجئ الفلسطيني، مع السوري، فاجعة أخرى من فواجع زمن الاتجار بفلسطين عنوانا لخسارة وانتصار. موهوم في أوله وآخره.


ولأن المخيم هوية بالنسبة لملايين الفلسطينيين فإن حصاره وضربه، حتى لو كان على أيادي "الطهارة الثورية"، هو ضرب لهم في صميم الانتماء. كيف يمكن أن يقبل عقل أن تدك شوارع لوبية وصفد والجاعونة والقدس وحيفا والطنطورة والمنصورة، بصواريخ تغطي سواطير قطع الرؤوس ثم يحيلك بيان الحصار إلى "رد المؤامرة"؟

750 يوما تمر ويسأل شباب ومسنو اليرموك عن متلازمة الحصار العربي: كم مئة أبو خيزران مر على جثثنا؟


يهلل محاصِر على جسر اليرموك عند مدخله الشمالي لسياف في شارع العروبة جنوب اليرموك، وفي الذاكرة والقلوب غصات. يتفق مدعي نظرية الأضداد على ترديد شعار حاخامي قاده موشي ليفينغر ومعه مائير كهانا: "العربي الجيد هو العربي الميت". وهنا الفلسطيني كناية عن العربي. فمن يقتل بالحصار والقنص والقصف؟

بالتأكيد لم يكن شباب مخيم اليرموك، من كل اتجاهاته الفكرية، سوى مبدعي زمنهم الذي حلم به شعبهم. ورغم ذلك تبقى الغصات بأن ترى "فلسطينيا" يشارك في الحصار والقصف. تكرار لمشهد في أواسط الثمانينيات في برج البراجنة.

لكن حقا، ماذا يفعل الذبح في واقع ومستقبل الفلسطينيين اللاجئين؟
نكذب على أنفسنا إن لم نر المشهد كما هو، كيف يصرخ عجوز فلسطيني في داخل اليرموك مناشدا بإرساله "عند اليهود". ذلك مشهد لم يكن هوليووديا ولا تلقينا مؤامراتيا. بل عكسا لواقع صورة يوم الحشر التي وزعتها وكالة غوث اللاجئين "الأونروا". وسيارة الخبز قبل أسابيع يتدافع نحوها الجوعى.

الحصار ليس تجويعا فحسب، بل نخر لتأسيس ثقافة لم تكن في حسبان أي من نخب العرب في زمن الثورات المضادة. أفيخاي أدرعي سيسوق كيانه بحالة تفوق أخلاقي ذات يوم وهو يذكرنا: نحن على الأقل لم نفعلها تجويعا. حتى إننا كنا ندخل الطعام لياسر عرفات في المقاطعة.

اقرأ أيضاً:
"داعش" يقتحم مخيّم اليرموك في دمشق

الوجه الآخر للحصار، عدا عن تعليق ربطة خبز في مرمى القناص لإذلال الفلسطينيين، في ذلك الحفر النفسي التدميري في مأساة شعب يملك قضية عادلة. عوائل كاملة فقدت ظلها وتاريخها. عوائل فلسطينية، بعشرات الآلاف، فقدت حتى مفاتيح بيوتها في فلسطين تحت القصف والتهجير. فهل تشتيت شمل الفلسطينيين وضرب هويتهم وذاكرتهم هو طريق لتحرير فلسطين؟

حين تتحدث عن اليرموك، يظل السؤال كفاجعة أخرى في بكاء مكتوم في حديث هاتفي بين أخ وأخت. لماذا جرى حصارنا؟ ولماذا فجأة تصبح داعش والنظام وطوابير من بعض فصائل متفقة على وأدنا؟

مأساة أهل اليرموك، بعد أن كان مخيمهم كينونة هوياتية واقتصادية وثقافية واجتماعية في حيوية شعبه، فلسطينيين وسوريين، أنهم اليوم مطالبون إما بالهداية على طريقة "جند الخلافة" أو "الاستسلام لمنطق الممانعة". وفي الحالتين يضرب شتاتهم على خزانات السويد والدنمارك وهولندا وفرنسا فلا يسمعون سوى شخير "أبو الخيزران". وحين يصحو يردد: إنها مؤامرة صهيونية لتهجير اللاجئين الفلسطينيين لإنهاء حق العودة. لكن بيد من تنفذ تلك "المؤامرة"؟

قد لا يفكر المحاصر والقاتل هذه الأيام بسؤال عجوز فلسطينية كلما سمعت انفجار قذيفة: "هل هجم اليهود؟". لأنها تعيش روحا وذاكرة في قضاء حيفا. في فلسطين التي يقصفونها باسمها.


اقرأ أيضاً:
"الأونروا": الوضع في مخيم اليرموك بدمشق مفجع

المساهمون