حرب اليمن في صور

حرب اليمن في صور

17 سبتمبر 2015
تحاكمك الصورة وتضعك في الزاوية (فرانس برس)
+ الخط -
الصورة الأولى
عدن، الصورة كانت في أبريل/نيسان بعد اجتياح مليشيا الحوثي للمدينة الوادعة، كانت أعداد القتلى بالعشرات والجميع يتحدث عن حصار خانق للمدينة -والبلد- من كل المنافذ بدعم من ضربات التحالف الجوية التي سعت بطريقتها لفرض الحصار، يظهر جزء من البحر ومن الرصيف ولم تكن المياه صافية: غطّت وجه المياه طبقة بيضاء مصفرة وتبدو في الصورة أنها تطفو وتنتشر على مهلها، كانت تلك الطبقة هي الطحين الذي تدفق حتى البحر بعد قصف صوامع الغلال الواقعة بالقرب من البحر وبإمكانك أن تسخر قائلاً: عجينة جاهزة فالبحر مملوح أساساً! لكنها كانت صورة مفزعة إذ لا يمكنك أن تتخيل تناقض ما يحدث في الصورة.


المدينة محاصرة، وفيها الآلاف من الأسر التي لا تستطيع جلب الغذاء بسبب حرب الشوارع المجنونة، وحالة رعبٍ بالقناصة التي استخدمتها المليشيا الحوثية، وحين تفكر بتلك الصورة لأسر جائعة وبحر يعجن الطحين بعبثية مفرطة ستحس بالاشمئزاز حد البصق.

الصورة الثانية
ربما من صعدة، عمران، صنعاء، لا أعرف وليس بمهم لدي، إنها الصورة التي لا يمكنك أن تعبر عليها قط؛ تحاكمك الصورة، تضعك في الزاوية، والنظرة التي ينظر بها الطفل للامكان ستجعل منك وضيعاً بالقدر الذي لن تتحمله وستبكي رغماً عنك، إنه الطفل الذي يرتكن -مغبراً متسخاً شعره مليء بالتراب خشن رغم نعومته- يرتكن إلى خشبة مرفوعة من الأرض ربما كانت جزءاً من المنزل الذي خلفه والذي لم يعد منزلاً بالطبع. ركام كثير وغبار وقطعة قماش مختلطة بالأحجار وأبعد قليلاً أفق مرتاح، سماء لا تعرف عن الأرض سوى نيران ليلها المرعبة، وهذا ليس ما يفترض أن يقال وهو بدون معنى وكلام أخرق، وأضيفه للحذاقة ليس إلا، فأنت لن ترى هذه التفاصيل، ستثبتك نظرة الطفل الصغير، ستنظر في عينيه طويلاً وستردد آلاف المرات أنا آسف! أنا آسف لهذا الوسخ الذي يعتليك ولهذا الفقر، آسف لدمار منزلك وضياع موطنك، لهذا الظلم الذي يصنع هوانك، لكنك يجب أن تراه! إذ مهما أخبرتك أنا لن أصف لك نظرته المطرقة إلى أسفل، كفاه الصغيرتان اللتان يستند عليهما خده الأيمن، تلك الهيئة البائسة لجسد صغير يقول بأكمله: لماذا أنا أيها المقدّر كل هذا؟ ولم يكن المقدر ليجيب عليه، لكنك يا طفلي العزيز تختصر هذا كله وبإمكاني أن أسميك اليمن: عش طويلاً لتعرف أنك كنتها بكل تأكيد، فقيراً متسخاً بغبار منزلك الذي تهدم، وحيداً، خسرت كل شيء، ولا غد لديك إذ لا أحد سيلتفت إليك، والعالم حتى لن ينشغل بك لثانية: أنت اليمن يا ولد.

الصورة الثالثة
عدن كريتر، واجهة مبنى بدون أركان، شبه دائرية، وتلة من الركام ترتفع قريباً من المبنى وتغطي جزءاً من أحد الأبواب الكبيرة التي في الأسفل والتي كانت لبقاليات أو دكاكين صغيرة فيما يبدو، أعلى قليلاً تتدلى القوائم التي في ما يبدو كانت تحمل اللوحات الإعلانية وأعلى أيضاً كانت نوافذ الطابق الأول، كان اثنان من المكيفات مازالا صامدين في مكانهما رغم أن المبنى قد تفحم، أعود للأسفل مرة أخرى في مقدمة الصورة وعلى تلة الركام السابق ذكرها يجلس شاب يرتدي تيشيرتاً أزرق وبنطالاً بلون الركام وبطرف شاله يضغط عينيه ورأسه منكس وظهره منحنٍّ، كان يبكي وتلك الصورة اختصرت بشكل كامل ما حدث لكريتر العتيقة والجميلة، كريتر المستعمرة الأنيقة للبريطانيين، دخلتها المليشيا الحوثية بعتادها المتوحش فأحرقتها وأفرغتها من ساكنيها وانتشرت فيها الأوبئة وتحولت لمدينة أشباح في فترة قصيرة وعلى الأنقاض جلس ذلك الشاب بكامل أناقته خبأ وجهه وبكى.

الصورة الرابعة
إحدى المدن اليمنية الواقعة في نطاق الحرب، الرجل الواقف في السماء، يرتدي اللباس اليمني التقليدي: المعوز والقميص العادي، ويضع شالاً داكن اللون على كتفه الأيسر، يقف على سطح البيت اليمني التقليدي: البيت الحجري المغبر بدون طلاء، السطح الذي توضع عليه الكراكيب من الأحجار وخزان المياه وكل ما لا يستخدم في الأسفل، وأمام الرجل تعلو سحابة من الدخان الأسود، تقابله وتعلو وتستمر بالعلو، بينما يعقد هو يديه خلف ظهره بوقفة هادئة متأملاً مصدر الدخان غير آبه كما يبدو من وقفته المسترخية، ولا يعرف أن هناك آخر خلفه يحمل آلة تصوير، التقط له تلك الصورة لتنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم: اليمني الذي لن تكسره الحرب مهما فعلت، بل سينظر إليها من علو، وطالما لم تقتله سيظل ينظر إليها كأنه المتفوق والمنتصر دائماً، كانت الصورة برمزيتها المبهرة عزاء وحباً لكثير ممن روعتهم الحرب.

الصورة الخامسة
تعز- إب، في مقدمة الصورة تخز عينيك السيجارة المشتعلة ويدٌ من ذراع بترتها الكاميرا تستند على كرسي حافلة ممزقة حوافه، هنا رجل يتحدث بهمّة ويدخن، وخلفه تجلس صبية بيضاء الوجه ترتدي إيشارباً أحمر بنقوش بيضاء، وترتدي العباءة السوداء، لكن هناك مثلث أصفر صغير يمتد من رقبتها نزولاً إلى صدرها، نظراتها جامدة جداً: ثابتة ولا مشاعر فيها، عيناها كحيلتان ستلاحظ هذا، وتبدو الصورة عادية، وستحتار إن كانت في حافلة أم لا، وحتى اللحظة لا شيء مريب ولا غريب، فالصورة التي نراها غالباً هي لبقايا أجساد، لطرق موت غريبة، لرصاصات وشظايا تختار أن تقتل بكل احترافية وأحياناً بكل تفرد، لوجوه فقدت سمتها وصارت دهشة، أما الفتاة بحجابها الأحمر الغامق هي آخر ما يلفت انتباه المعتادين على صور الجنازات، لكن التعليق الذي أُرفق بالصورة جعلها تشبه الجثث وقريبة منها: "وسيم مات "، ثم جُمل تحت عنوان الصورة تناشد من يعرف هذه الفتاة أن يبلغ أهلها ويعطيهم رقم هذا الهاتف لكي يتواصلوا به، فالفتاة كانت مع الفارين من تعز إلى إب بعد الاجتياح الحوثي للمدنية، لكنها لا تنطق غير جملة واحدة: "وسيم مات".. انتهت الحكاية، وأترك بعد ذلك خيالك يفكر بوسيم: هل كان صغيراً أم كبيراً، قريباً أم حبيباً؟ كيف قُتل؟ ها، كيف فقدته؟ وانتهِ في الأخير وقل إنها الحرب وهذه هي منجزات مسيرة المليشيا الحوثية، ووسيم هو ذاته آلاف ممن تركوا وراءهم مثل هذه الصبية: لا يرددون سوى أسمائهم وتقف الحياة بنظرتهم الجامدة تلك.

الصورة السادسة
تعز، سبعة أجساد ملفوفة بأغطية لامعة، مسجاة على الأرض بغير نظام، وعلى الجانب الآخر بصورة منفصلة لكنها أدمجت فيها، رجل خمسيني برأس جريح ملفوف بالشاش الطبي يرتدي فانيلة بيضاء متسخة و"فوطة" ويجلس على الأرض مخبئاً كفه اليمنى داخل الكف اليسرى وفقط! انتهت الصورة، الأجساد السبعة المسجاة لنساء: ست فتيات وأمهنّ والرجل هو الأب وأخ سابع كان وقت الصورة يصارع الموت في العناية المركزة، قذيفة أطلقها مختل من مختلي المليشيا الحوثية فانهار البيت على ساكنيه، ومات الجميع وبقي الأب.. أفكر كيف أنه بإمكان الواحد منا أن يتخيل أنه يقف شاهداً على جثة العالم، جثة العالم أجمع لكن ليس باستطاعته أن يتخيل جثث عائلته، بقي الأب حياً: يعلق صديق "لقد نجا بأعجوبة"، كلا إنه لم ينج قط ولن ينجو.

(اليمن)

المساهمون