جينس شتولتنبرج أميناً عاماً للأطلسي: رجل الحلول الوسطى

جينس شتولتنبرج أميناً عاماً للأطلسي: رجل الحلول الوسطى

04 أكتوبر 2014
كان شتولتنبرج في مراهقته معارضاً شديداً للأطلسي(فرانسوا لونار/فرانس برس)
+ الخط -

يرتبط الأمين العام الجديد لحلف شمال الأطلسي، النرويجي جينس شتولتنبرج، بعلاقات وثيقة مع روسيا، عبر شخصَي الرئيس فلاديمير بوتين ورئيس وزرائه ديمتري ميدفيديف، بسبب مساره السياسي الطويل ورئاسته للوزراء في بلاده، وقد تمخّض عن هذه العلاقة ترسيم الحدود البحرية بين البلدين وإعفاء مواطني البلدين، المتجاورين، من التأشيرات (فيزا). ولا تُعرف عن شتولتنبرج، الحاصل على تأهيل اقتصادي، ميولٌ تجاه مسألتي الدفاع والأمن، وإن كان يُعرف عنه، في المقابل، إتقانه لفنّ التفاوض.

والغريب أن هذا السياسي (55 عاماً)، كان في مراهقته معارضاً شديداً للأطلسي وللاتحاد الأوروبي. وعُرف عنه، في السبعينيات من القرن الماضي، أنه قذف السفارة الأميركية في بلده بالحجارة بسبب حرب فيتنام. والمفارقة أنه في ظل إدارته لحزب العمال، تخلّت شبيبة الحزب عن المطالبة بخروج البلد من حلف شمال الأطلسي. وفي سنة 1995، عارض، شخصياً، التجارب النووية الفرنسية.

وفي ظل حكمه، شاركت النرويج في حرب أفغانستان وفي تنفيذ الضربات الجوية ضد ليبيا. وإذا كانت دولة النرويج معروف عنها تقليدها السلمي، فإن السياسي الشاب، جينس شتولتنبرج، استطاع أن يجعل هذا النزوع "السلموي" يتأقلم مع الثقافة الأطلسية.

إنه رجل الحلول الوسطى والتأقلم مع المستجدات، وهو ما حدا بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لترشيحه لهذا المنصب الرفيع، وهو ما جعل الرئيس الأميركي باراك أوباما، أيضاً، يوافق على الفور على هذا الاقتراح.

تزعّم شتولتنبرج حزب العمال الاجتماعي الديمقراطي في بلده، وهو ما أدى به إلى تولّيه منصب رئيس الوزراء في بلده خلال ما يقرب من 10 سنوات، قبل أن يخسر الانتخابات التشريعية في سبتمبر/ أيلول 2013.

وحين أطلق الإرهابي النرويجي، أندريس بريفيك، النار عشوائياً في شوارع النرويج، وقام بتفجير بجوار مبنى الحكومة النرويجية متسبّباً في مقتل 77 شخصاً، في يوم 22 يوليو/ تموز 2011، لم يكن يدري أن رئيس الوزراء سيخرج سالماً، بل وبشعبية كبيرة فاقت التصورات (94 في المئة راضون عن إدارته للمأساة)، زاد منها حسن تعامله مع الكارثة وما بعدها، في صبر وتعاطف فاق التصورات وجعل منه شخصية مثيرة للإعجاب في بلده وفي العالم بأسره.

لقد كان تعاطيه مع المأساة إنسانياً وراقياً، بعيداً عن أي استثمار سياسي للفاجعة، ما جعل الشعب كله يقف صفاً واحداً ضد الإرهاب. حينها قال في حكمة: "يمكن للشرّ أن يقتل أشخاصاً، ولكنه لا يمكن أن يَهْزِم، أبداً، شعباً بأكمله".

وبعد سنة من الجريمة أعلن، في خطاب إلى الشعب: "كانت القنبلة والرصاصات تهدف إلى تغيير النرويج. ولكن جواب الشعب النرويجي كان هو الالتحام بِقِيَمنا. لقد فَشِل القاتل وانتصر الشعب". ووعد بديمقراطية وانفتاح أكبر.

وقد اتخذ الانفتاح أشكالاً متنوعة، منها إقدامه، لأول مرة في تاريخ النرويج، على تعيين اهادية طاجيك (29 سنة)، وهي امرأة مسلمة، وزيرة للثقافة في بلد لا يمثّل فيه المسلمون أعداداً كبيرة، لتكون أول عضو مسلم في مجلس الوزراء على الإطلاق في الدولة الإسكندنافية.

لقد جاء قرار دول حلف شمال الأطلسي بتعيين هذا النرويجي أميناً عاماً للحلف، تجنّباً للحساسيات التي يمكن أن تحدث بين قوى غربية مختلفة، فتقرّر أن تُترك الأمانة العامة في أيدي الدول الإسكندنافية. إذ ليس من المعقول، في هذه الفترة على الأقل، أن تسلّم القيادة إلى دول تجاهر بمخاصمة موسكو وتقترب من المواجهة المفتوحة على كل الاحتمالات.

التحدي الأكبر الذي سيحاول أن يجيب عنه شتولتنبرج، هو كيفية خلق تعامل ومقاربة جديدة وحذرة مع أوكرانيا الجديدة، تأخذ بالاعتبار المصالح الروسية، لأنه لا غنى عن إمكانية التعاون مع روسيا على المدى الطويل، فالمواضيع المشتركة كثيرة، من بينها الإرهاب والحرب ضد "داعش"، في سورية والعراق، والانتشار النووي وأفغانستان.

وإذا كان الأمين العام السابق، الدنماركي أندريس فوغ راسموسن، قد تميّز عهده وأسلوبه بالصدام مع روسيا، والذي أدّى إلى إرساء نوع من الحرب الباردة، فإن المطلوب من خَلَفِه، الذي ترتبط بلاده بحدود مع العملاق الروسي، أن يكون حذراً، إذْ لا أحد يختار جاره.

يعرف الجميع أن الروس يلعبون لعبة خطرة في المسألة الأوكرانية، أي يخوضون ما يسمى بـ"الحرب الهجينة"، التي تجعلهم يواكبون ما بين التدخل العسكري الذي يخفون مسؤوليتهم عنه، عبر إرسال قوات خاصة وقوات برية مع إمداد المتمردين الانفصاليين بالسلاح، مع نشر حملات إعلامية لاذعة معادية للغرب، إضافة إلى الهجمات المعلوماتية.

ليس من الغريب أن اختيار هذا السياسي المُجرّب والهادئ نابع، إذن، من تاريخ مشترك وجيرة مشتركة، ولعلّ الهدوء وحسن الإنصات عند هذا الأمين العام الجديد يجد أذناً صاغية لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويشكل "قطيعة"، لا بُدّ منها، مع صداميّة راسموسن، التي أدت إلى وقف كل تعاون عسكري ومدني بين حلف شمال الأطلسي وروسيا، إضافة إلى توقف عمل مجلس الحلف وروسيا، وهي قناة استشارية سياسية جرى إنشاؤها سنة 2002.

ما هو المطلوب من هذا الزعيم الجديد؟

في أول ندوة صحافية في مقر حلف شمال الأطلسي، ألحّ شتولتنبرج على المسائل التي تحمل طابع الأولوية في نظره. وإذ شدّد على أنه "لا يوجد تناقض بين حلف أطلسي قوي وبين الجهود المستمرة من أجل إرساء علاقات بنّاءة مع روسيا"، أكد أن الأولويات تتمثّل في الحفاظ على حلف أطلسي قوي، وتقديم المساعدة للدول المجاورة، حتى تبقى مستقرة، من خلال العمل مع الشركاء، وتعزيز التحالف بين أوروبا وأميركا الشمالية.

وألحّ على موقف الحلف من المشكلة الأوكرانية، التي اعتبرها من التحديات الكبرى للأمن الأورو ـ أطلسي، وأكد تأييده للحل السلمي، بما فيه الوقف الهش لإطلاق النار، منتظراً من روسيا تغييراً في الأفعال، وليس في الأقوال فقط. وحذّر من أن حلف شمال الأطلسي ملتزمٌ بتقديم "كامل الدعم" لأوكرانيا، وخصوصاً في أربعة مجالات، وهي الأمن المعلوماتي واللوجستي والقيادة والمراقبة، إضافة إلى تأهيل الجرحى من الجنود.

ولم يختلف موقفه في ما يخص الحرب التي تُشن في العراق على تنظيم "داعش"، عن الموقف السابق المتمثّل في دعم الحكومة العراقية.

وطالب الأمين العام الجديد من دول حلف شمال الأطلسي، التي خفّضت من مساهماتها في ميزانية الدفاع بسبب الأزمة الاقتصادية، أن تعيد النظر في موقفها وأن "تستثمر أكثر"، وأن تنفّذ قرارات الحلف الأخيرة في ما يخص تعزيز الدفاع الجماعي وتوسيع شراكة حلف شمال الأطلسي، وتمتين التحالف الأطلسي.

على كل حال، يعرف هذا المسؤول الأوروبي أنه لا ينفّذ قرارات لوحده، لأن القرارات النهائية تتخذها الدول الأعضاء، وخصوصاً الولايات المتحدة. كما أنه يعرف أنه ليس الوحيد الذي تحوم شبهات حول صداقاته مع الروس، إذ تلاحق الشبهات ذاتها وزيرة الخارجية الجديدة للاتحاد الأوروبي، الإيطالية فيديريكا موغيريني.

وإذا كانت الوزيرة الإيطالية الشقراء تعرف كيف تكشّر عن أنيابها في وجه بوتين، حين يلزم الأمر، فإن هذا السياسي النرويجي، الذي قذف السفارة الأميركية يوماً بالحجارة، يعرف كيف يقول لبوتين: "ثمّة حدود لا يمكن للروس أن يتجاوزوها".