جنوب السودان: حرب الإخوة ــ الأعداء

30 يناير 2014
+ الخط -
قلة قد تتذكر الشاب الذي ظهر على شاشات التلفاز يوم الاستفتاء على انفصال جنوب السودان، في كانون الثاني/ يناير 2011. يومها، كان الحماس يطغى على حديثه وهو يستعيد رحلة العودة من الولايات المتحدة إلى جوبا، ممنياً النفس، على غرار معظم أبناء جنوب السودان، بأن الانفصال سيكون بمثابة الخلاص من "الشمال" ومشاكله، لينعم أهل الجنوب باستقرار في بلد لطالما حلموا بوجوده.

لكن بين تطلعات الشعب والواقع، هوّة شاسعة عززتها حالة من اللااستقرار عاشتها الدولة الوليدة، منذ لحظة إعلانها في ٩ تموز/ يوليو ٢٠١١، توزّعت بين معارك مع السودان، كادت تصل إلى حرب شاملة، وبين معارك داخلية عسكرية وسياسية بلغت ذروتها في الأسابيع الماضية.

انفجار الصراع بين أعضاء البيت الواحد، أي "الحركة الشعبية" وهي الحزب الحاكم، جاء على ما يبدو أسرع من المتوقع وأكثر دموية. وما المعارك المتواصلة منذ أسابيع بين القوات الحكومية والقوات المتمردة على خلفية اتهام رئيس جنوب السودان، سيلفا كير ميارديت، لنائبه الرئاسي السابق، رياك مشار، بمحاولة الانقلاب عليه، سوى الدليل الأبرز.

صحيح أن وتيرة المعارك التي اندلعت في منتصف كانون الأول/ ديسمبر الماضي، انخفضت في الأيام الماضية، إلا أن السبب في ذلك ليس رغبة طرفَي الصراع في وضع حدّ لها، بل نتيجة وساطات عديدة ضاغطة، أبرزها من الولايات المتحدة والدول الأفريقية.

وساطات أفضت إلى وقف لإطلاق النار لا يزال يتعرض لخروق يومية، فضلاً عن إطلاق سراح ٧ من أصل ١١ شخصاً يوم أمس، الأربعاء، كونهم متّهمين من قبل حكومة جنوب السودان بالضلوع في محاولة الانقلاب.

في مقابل هذا الإفراج، الذي يُعد شرطاً رئيسياً للمتمردين للاستمرار في المفاوضات، توعّدت جوبا ٦ من كبار القيادات في "الحركة الشعبية"، يتقدمهم مشار، والامين العام السابق للحركة، باقان أموم، بمحاكمتهم بتهمة الخيانة. محاكمة يُستبعد أن تباشرها جوبا حالياً بانتظار اتضاح الحصيلة النهائية للضغوط التي يمارسها الزعماء الأفارقة للتوصل إلى تسوية شاملة، اذ إن الخشية من غرق الدولة الوليدة في حرب أهلية طاحنة تتعزز، ليس فقط لكون الحرب ستطيح بأي أمل ببناء مقوّمات الدولة الوليدة، بل لأنها تهدد بمزيد من اللااستقرار الأمني على حدود أكثر من دولة أفريقية تجاور جنوب السودان، فضلاً عن تكلفتها الانسانية الباهظة.

ويشكل المدنيون الضحية الأبرز حتى الآن للصراع، إذ تشير الإحصاءات الأولية إلى أن حصيلة المعارك المتوزعة على أكثر من ولاية، ناهزت الـ١٠ آلاف قتيل، يُضاف إليهم آلاف المصابين وأكثر من نصف مليون نازح.

أرقام تعكس عمق العداوة بين الفريقين المتصارعين، وخصوصاً أن هناك عاملين، قبلي واقتصادي، يحضران بقوة في النزاع الذي لا يقتصر فقط على تنافس سياسي بين أبناء جون قرنق، الذي شكل رحيله المفاجئ في عام ٢٠٠٥، في حادث طائرة غامض، واحداً من أصعب الاختبارات التي مرّت بها الحركة.

ميارديت، الذي خلف قرنق في رئاسة الحركة، ما أهّله ليكون أول رئيس لدولة جنوب السودان بعد الانفصال، تُوَجَّه إليه اتهامات بالتفرّد في الحكم وإقصاء أي صوت يعترضه. سلوك يرى كثيرون أنه تجلّى في التعديل الحكومي الذي أجراه في تموز/ يوليو من العام الماضي، عندما أطاح بجميع أعضاء حكومته بمَن فيهم مشار، الذي عزله من منصبه كنائب لرئيس جنوب السودان.

أما مشار، الذي لا يزال يحتفظ بمنصبه كنائب لرئيس "الحركة الشعبية"، فلم يتأخر في رد الصاع صاعين بإعلان نيته الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، مستغلاً دعم مجموعة من قيادات "الحركة الشعبية" التي استعداها ميارديت، بمَن فيهم أمينها العام باقان أموم المعتقل حالياً، وزوجة زعيم الحركة السابق ريبيكا قرنق.

المتأمّل في الشخصيات السياسية المتحالفة مع مشار، وتحديداً ريبيكا المنحدرة من قبيلة الدينكا، وأموم المنتمي إلى قبيلة الشلك، سيرى بوضوح أن الصراع سياسيٌّ بامتياز، لكن اللعب على وتر "الانتماء القبلي"، على خطورته، شكل الوسيلة الأسرع للحشد لدى الطرفين.

ويعتمد مشار بقوة في حربه الحالية على أبناء قبيلة النوير التي ينتمي إليها، ما يعطي الصراع طابعاً قبلياً، وخصوصاً في ظل الاتهامات التي تطال أيضاً قبيلة الدينكا التي ينتمي إليها ميارديت بالهيمنة السياسية والاقتصادية.

ولعل من أبرز ما أثبتته المعارك أن مشار يدير هذه الحرب بذكاء وبتخطيط مسبق، وخصوصاً بعدما نجحت قواته في فتح معارك في أبرز الولايات الجنوبية الاقتصادية، وتحديداً في ولايتي الوحدة وجونقلي النفطيتين اللتين لا تزالان إلى اليوم تشهدان معارك متقطّعة، ما يؤشر إلى أن المعارك ستطول إلى أن يحسم أي من طرفي الصراع فيهما.

هو حسم يبدو مستحيلاً أو قد يأخد وقتاً طويلاً، على الأقل استناداً إلى تجربة الحرب الأهلية في السودان التي كانت "الحركة الشعبية" طرفاً رئيسياً فيها، ليبقى المدنيون يدفعون الثمن من حياتهم ومن ضياع حلمهم بدولة مستقرة نتيجة حرب الإخوة ــ الأعداء في ما بينهم.

المساهمون