جلال عامر .. جنرال النكتة وفيلسوفها

جلال عامر .. جنرال النكتة وفيلسوفها

12 فبراير 2014
جلال عامر
+ الخط -

"اسمي (جلال) وفي البيت (المخفي) وأمام الضابط (فوزية)، وأنا المصري الوحيد الذي كتبت في إقرار ذمتي المالية أن عندي (حصوة) فأنا لا أمتلك سلسلة مطاعم بل فقط سلسلة ظهري وسلسلة كتب".

"أنا لا كاتب ساخر ولا سروجي سيارات!.. كان نفسى أطلع محلل استراتيجى لكن أهلى ضغطوا علي لأستكمل تعليمي" "أنا مجرد كاتب يرفض أن يتحول إلى قهوجي عند القراء أو سفرجي عند الحكومة"

"أنا صعلوك عابر سبيل، ابن الحارة المصرية، ليس لي صاحب، لذلك كما ظهرت فجأة سوف أختفى فجأة فحاول تفتكرنى". هكذا عرّف جلال عامر نفسه.

"أمير الساخرين" .. الذي عاش ضاحكاً ومات باكياً. "فيلسوف الغلابة" الذي اختصر معاناتهم في كلمات موجعة بقدر سخريتها.

حكيم الثورة ..

"الساخر الساحر .. الغائب الحاضر" الذي رحل وبقيت كلماته حية تحكي واقعنا المتغير كأنها ولدته معه وله.. وتعبر عنه بقوة ووضوح أكثر مما يكتبه بعض الأحياء.

يوم الجمعة 10 فبراير/شباط 2012 وبعد أيام من مذبحة بورسعيد، وقبل يوم من ذكرى رحيل مبارك، شارك جلال عامر في مظاهرة في الإسكندرية ضد حكم العسكر، وخرج في مواجهتها مظاهرات مؤيدة للمجلس العسكري مما أسفر عن اشتباكات بين المواطنين من الجهتين.

لم يتحمل تكرار مشهد الاقتتال بين المصريين، فأصيب بأزمة قلبية وهو يصرخ باكياً "المصريين بيموّتوا بعض" ونقل إلى المستشفى وأجريت له عملية في القلب الذي كان وجعه أصعب من المداواة ، فـ"اختفى فجأة" من حياة الناس يوم الأحد 12 فبراير، غير أن الجميع يتذكرونه، ونعاه بعض شباب الثورة في وقفة لتأبينه بلوحة مكتوب عليها (جلال عامر لم يمت، بل ذهب ليرسم البسمة على شفاه شهدائنا).

هو "عم جلال" المواطن المصري السكندري الذي عاش معاناة المواطنين بفكره وضميره ووجدانه، وعبّر عنها بحكمته الساخرة وقلمه اللاذع، ولد مع ثورة يوليو (25 سبتمبر 1952) وتخرج في الكلية الحربية، وشارك في ثلاثة حروب مصرية ، وكان أحد ضباط حرب أكتوبر، وشارك بفرقته في تحرير مدينة القنطرة شرق، ودرس القانون والفلسفة، وكتب في عدة صحف مصرية.

له كتابان نشرا في حياته أحدهما "استقالة رئيس عربي"، والآخر "مصر على كف عفريت" قال عنه: "هو محاولة لبحث حالة وطن كان يملك غطاء ذهب فأصبح من دون غطاء بلاعة. لماذا وكيف؟ فقد بدأت مصر بحفظ الموتى، وانتهت بحفظ الأناشيد، لأن كل مسؤول يتولى منصبه يقسم بأنّه سوف يسهر على راحة الشعب، من دون أن يحدد أين سيسهر وللساعة كام؟ في مصر لا يمشي الحاكم بأمر الدستور، بل بأمر الدكتور، ولم يعد أحد في مصر يستحق أن نحمله على أكتافنا إلا أنبوبة البوتاغاز، فهل مصر في يد أمينة أم في إصبع أميركا أم على كف عفريت؟». وجمعت مقالات له في كتاب صدر بعد وفاته بعنوان "قصر الكلام".

لم يمنعه تاريخه العسكري من أن يواجه ما فعله قادة الجيش بالوطن والمواطن، فعارض نظام مبارك الذي جعل معركة المصريين اليومية هي "حرب الثلاث وجبات" بعدما خاضوا 3 حروب ضد إسرائيل ، وقال "أحفظ برنامج السيد الرئيس في درجة حرارة الغرفة، وأعرف أن الحياة بدأت بضربة جوية وسوف تنتهى بضربة أمنية، لذلك لا أحب الصراعات، والمرة الوحيدة التي تصارعت وتدافعت فيها في الطابور ونجحت في الحصول على خبز سحبوه منى بحجة أنني أتعاطى منشطات". وسخر من نظامه: "ليس عندنا رئيس سابق، لذلك اخترعت لنا صحف الحكومة «رئيس سابق عصره»!ا

ترشح في انتخابات مجلس الشعب 2010 في محافظة الإسكندرية في محاولة لفضح بشاعة انتهاكات الحزب الوطني الحاكم وخطر ممارساته على مستقبل البلاد، وكانت دعايته عبارة عن مقارنة تخيلية بين ضرب البلد لا قدر الله بـ"القنبلة الذرية" أو ابتلائه لا قدر الله أيضاً بـ"الحزب الوطني"، وقال: " في بلادنا نتيجة الانتخابات مثل نتيجة الحيطة، معروفة مسبقاً"، وطبع دعايات انتخابية يقول فيها «لا تنتخبوا جلال عامر فهو مجرد ضابط جيش عبر فى حرب أكتوبر وجرح فى محاربة العدوان».. «لا تنتخبوا جلال عامر فهو فقير وغلبان ولا يستطيع أن يقدم رشاوى انتخابية».. «لا تنتخبوا جلال عامر فهو لا يمتلك مرسيدس ولا حتى بسكليته وحيوقف أي واحد فيكم ويطلب منه توصيلة" .

شارك عامر في ثورة يناير ورسم مراحلها النفسية وتطورها برشاقة وصراحة، فقال ما يخجل الساسة من مواجهته، وما أحس الشباب أنه لسان حالهم ويعبر عنهم "بعد انتهاء الحرب يتم تبادل الأسرى، وبعد انتهاء الحب يتم تبادل الخطابات، وبعد انتهاء الثورة يتم تبادل الشتائم"، "حتى الآن لم يستفد من الثورة إلا بائعو «الاعلام» وبائعو الأوهام"، "فى بلادنا الكراهية تجمع والحب يفرق .. انظر إلى الملايين الذين تجمعوا على كراهية مبارك ثم تفرقوا أحزاباً أمام حب الوطن"، "نظام مبارك لم يتحول بعد إلى «سابق» مادام صاحبه لم يتحول إلى سوابق"!، "حيّرتنا مصر وأتعبتنا، ورأيي المتواضع هو أن «نزوجها» ونرتاح من مشاكلها وتبقى فى ذمة راجل".

"وتستمر الفوضى حتى لا يطير الدخان والمستخبي يبان"، "بمجيء الرئيس الجديد سوف يعود الاستقرار والاستثمار ويعود الجيش إلى «الثكنات»، ويعود الشعب إلى «المسكنات»!، "عاصرنا الثورة والثورة المضادة والثورة المضادة للثورة المضادة، وأصبحنا الآن فى حاجة إلى معارضة تعارض المعارضة"، "لا تلوموا الذين يرفعون سقف «المطالب» ولوموا الذين يرفعون سقف «العناد»!".

وقال: "توقفنا عن غسل الشوارع بالماء فقد أصبحنا نرويها بالدماء"، و"المشهد السياسي الآن ينقصه فقط أن يقول اللواء عمر سليمان: (قرر الرئيس محمد حسنى مبارك التراجع عن قرار التنحى، والله الموفق والمستعان)!".

هاجم الدولة الأمنية، وممارساتها التي انتهكت كل قيم الدولة.. "الحرية متوفرة لدينا وفي كل فروعنا في الخارج … أتصل الآن يأتيك مخبرونا"، "الدول المتخلفة تجمع معلومات عن مواطنيها أكثر مما تجمع عن أعدائها، فأنا واثق أن أجهزة الأمن تعرف خال أمّ جدّي ولا تعرف الاسم الرباعي لـ نتنياهو".

"لماذا نهتم في مصر بالسجون أكثر من اهتمامنا بالمدارس؟ الإجابة واضحة: إن المدارس بالنسبة لنا هي ماض لن يعود، لكن السجون هي مستقبلنا جميعا"، "مساحة الحرية هي المسافة بين كف الضابط وقفا المواطن".

قدم بكلماته ونكاته تشريحاً نفسياً واجتماعياً مميزاً لكثير من سمات وقسمات شخصية المواطن المصري ومشكلاته .. "الدول المتقدمة تضع المواطن «فوق» دماغها والدول التافهة تضع المواطن «في» دماغها"، "حضرتك مواطن على عيني وراسي لكن ليس لدرجة أن تتصرف كمواطن وتصدق نفسك"، "دون تعصب لبلدي فإن الشعب المصري أفضل من الشعب اليهودي لأننا نموت أمام الأفران ودون هتلر"، "أصبحت مهمة المواطن صعبة، فعليه أن يحافظ على حياته من "البلطجية" وأن يحافظ على عقله من "السياسيين"!، "يتراجع دور الوطن في الخارج، عندما يتراجع دور المواطن في الداخل، فالمال فىي الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة"، "حقوق الإنسان: هو حق المواطن في عدم إهانته إلا تحت إشراف ضابط"، "صدقوني الشعب في «وادي» والنخبة في «نادي» والفجوة متسعة ليبيض الديناصور"، "ليس من حقك أن تتطلع إلى منصب مهم في بلدك، فهو مثل مقاعد الأتوبيس مخصصة لكبار السن". "بين البائع والمشترى يفتح الله .. وبين الحاكم والمحكوم "حسبي الله"!.

واليوم ، ينتشر علي مواقع التواصل الاجتماعي تناقل الكثير من الشباب المصريين مقولات لعامر يعتبرونها الأكثر تعبيراً عما يمرون به وتمر به البلاد، ومن أبرزها: "إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يهاجر فوراً"، "فاجأنا السيد المشير بالملابس المدنية.. نريده أن يفاجئنا بالدولة المدنية"، "حتى الآن لم يتم إعلان أسماء المرشحين لمنصب الرئاسة واكتفوا بإعلان اسم الفائز".

جلال عامر الضاحك الحزين ، صاحب الأمل المجهد، تقرأ كلماته ولا تملك أن تمنع نفسك من الضحك، في ذات الوقت الذي تنهشك الكلمات من قسوة ما تحمله من وجع، لتختبر بنفسك كيف يكون عمق الحزن ورقة القوة.

جلال عامر ترك رسالة لأولئك الذين أتعبهم طول الطريق ومشقة الأحداث وقسوة الأيام: "سنصل مهما طال الانتظار .. فتفاءل، فالرحلة تبدأ غالباً بالوداع والدموع، لكنها تنتهي دائماً بالتهنئة بسلامة الوصول".

المساهمون