جزيرة الورّاق.. حكاية أرض مصرية

جزيرة الورّاق.. حكاية أرض مصرية

18 يوليو 2017
(تشييع أحد القتلى في تظاهرات ضد قرار خلاء الجزيرة)
+ الخط -

لم يكن يدور في مخيلة سكان جزيرة الوراق حين ناموا ليل السبت الماضي، أنهم سيستيقظون على أصوات الجرافات الحكومية وسرائن عربات الأمن ومبكرات صوت تطالبهم بإخلاء منازلهم بشكل فوري وإلا ستهدم فوق رؤوسهم.

الصدمة كانت قوية على سكان الجزيرة النيلية الفقيرة؛ فشُلّ تفكيرهم لوهلة تمكنت فيها جرافات الحكومة من هدم بعض المنازل، لكن سرعان ما استعاد الأهالي رباطة جأشهم، وقالوا: "لا. لن تمروا إلا على أجسادنا"، وشرعوا في إلقاء الحجارة على من يريد هدم حيواتهم ومحو وجودهم.

ردت القوات الحكومية بإطلاق قنابل الغاز وطلقات الخرطوش، ودارت رحى معركة استمرت عدة ساعات وخلفت قتيلًا من الأهالي وعشرات الجرحى. تدهور الوضع فأجبرت قوات الحكومة على الانسحاب، وهو انسحاب مؤقت كما يعرف الجميع وكما تقول الحكومة نفسها دون وجل.


تاريخ الجزيرة النيلية مع التوحش الرأسمالي
تقع جزيرة الوراق في نهر النيل بالقرب من حي الزمالك الشهير، وتبلغ مساحتها حوالي 1470 فدانًا، وتعتبر أكبر جزيرة نيلية في مصر. تتضارب الأقوال حول عدد سكان الجزيرة لكن أقل التقديرات تشير إلى أن عدد السكان 60 ألف نسمة.

مع نهاية التسعينيات، ومطلع الألفية الجديدة، بدا واضحًا أن الجزر النيلية أصبحت مطمعًا للدولة ومستثمريها؛ حيث  أصدر رئيس الوزراء الأسبق كمال الجنزوري، سنة 1998، قرارًا بإعلان 188 جزيرة نيلية "محميات طبيعية"، تمهيدًا لإخلائها من السكان في المستقبل.

دخلت خطة الدولة للسيطرة على الجزر النيلية وتحويلها إلى مناطق استثمار موضع التنفيذ في العام 2005، فوقعت مواجهات عديدة بين الحكومة وسكان عدة جزر أهمها الوراق والقرصاية والذهب، وتم تأجيل المشروع، لكنه عاد للظهور مرة أخرى في عام 2008، عندما أعلنت الدولة عما سُمّي بالمخطط الاستراتيجي للتطوير القاهرة الكبرى "القاهرة 2050".

أقام أهالي جزيرة القرصاية النيلية دعوى قضائية للتأكيد على أحقيتهم في البقاء على الجزيرة، وحكمت المحكمة الإدارية العليا، في 2010، لصالح بقاء الأهالي في القرصاية، وهو حكم ذو أهمية كبيرة؛ إذ يمكن أن يقاس عليه أوضاع باقي الجزر النيلية ومنها الوراق بالطبع.

عاد المشروع للظهور مرة أخرى في عام 2014، حيث جرت مناقشات حكومية لما قيل إنه مشروع تطوير جزيرة الوراق ضمن مخطط تنمية الجزر النيلية، وجرى التأكيد على أن المخطط الجديد هو: "تجميع المتناثرات مع الكتلة الرئيسية وتطويرها، وإنشاء امتداد للمنطقة البنائية على مسطح 50 فدانًا، وتحويل الجزيرة إلى متنزه سياحي ثقافي ترفيهي تجاري على ضفاف النيل".

قبل عدة أسابيع، وبالتحديد في يونيو/ حزيران الماضي، أشار الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى الأوضاع في جزيرة الوراق بشكل غير مباشر، وقال في مؤتمر "إزالة التعديات الدولة على أملاك الدولة": "في جزر موجودة في النيل هذه الجزر طبقًا للقانون المفروض ميبقاش حد موجود عليها.. وبعدين ألاقي مثلًا جزيرة موجودة في وسط النيل مساحتها أكتر من 1250 فدان ومش هذكر اسمها، وابتدت العشوائيات تظهر جواها والناس تبني وضع يد".

تابع السيسي آمرًا المسؤولين: "لو سمحتم، الجزر اللي موجودة دي تاخد أولوية في التعامل معها". وكانت هذه إشارة لبدء محاولة جديدة للسيطرة على جزيرة الوراق، وربما باقي الجزر النيلية.


حجج واهية للسيطرة على الجزيرة
جاء رد الحكومة على الانتقادات التي وجهت لها بسبب سعيها لإخلاء جزيرة القرصاية بالقوة ودون تعويض عادل لسكانها بالقول إن "المباني الموجودة على الجزيرة غير قانونية، وأن ما نفعله هو تنفيذ القانون".

لكن الحكومة التي تقول إن البناء على الجزيرة غير قانوني، لا تقول إنها أنشأت على أرض الجزيرة ثلاث مدارس حكومية، ونقطة شرطة، ومحطة مياه، ومكتب بريد، وتُحصل رسوم الخدمات من الأهالي. وهو دليل واضح على الاعتراف الرسمي التاريخي من جانب الدولة بوجود هؤلاء السكان على الجزيرة حتى وإن كانت أوضاعهم غير مقننة بشكل كامل.

تقول الحكومة أيضًا إن "الجزيرة محمية طبيعية"، وهذا يعني أن إخلائها سيكون من أجل الحفاظ عليها كمحمية طبيعية، لكن هذا يتنافى مع ما نشره الموقع الرسمي لمحافظة الجيزة- التي تتبع لها الجزيرة إداريًا- من أن مشروع تطوير الوراق يأتي ضمن المخطط المستقبلي 2030، وتظهر الرسوم التوضيحية للمشروع وجود ناطحات سحاب على الجزيرة.

كما يتنافى حديث الحكومة مع ما نشرته جريدة المصري اليوم- المقربة من النظام-، نقلًا عن مصادر حكومية رفيعة المستوى، حيث قالت الجريدة إن "رئاسة الجمهورية كلفت وزارة الإسكان وهيئة التخطيط العمرانى بإعادة إحياء مخطط تطوير الجزر النيلية الذي تم إعداده عام 2010، على أن تكون البداية جزيرة الوراق في الجيزة، بحيث تصبح مركزًا كبيرًا للمال والأعمال، ضمن مخطط تطوير كورنيش النيل والجزر النيلية".

تسقط الحجة الحكومية كذلك أمام المخطط المنشور على موقع مكتب الهندسة العقارية " RSP" الذي يقع مقره في دولة الإمارات، لتحويل الجزيرة إلى مدينة برجوازية جديدة، وهو مخطط منشور منذ مارس/ آذار 2013، ما يعني أن النية الحكومية لتهجير الأهالي مبيتة.


أهمية المعركة
تُظهر معركة جزيرة الوراق النظام على حقيقته من دون أية مساحيق تجميل، تظهره بوجهه الشرس وبعناده وتكبره على الوصول إلى حلول وسط لترضية الجميع. قد يكون هذا الوجه غير جديد، لكنه في حالة جزيرة الوراق أكثر فجاجة من أي وقت مضى.

معركة جزيرة الوراق هامة وربما مفصلية لعدة أسباب، أولها أنه إذا نجح النظام في اقتلاع أهالي الجزيرة من بيوتهم فسوف تكون هذه البداية لاقتلاع كل سكان الجزر النيلية من بيوتهم، وربما لا يقتصر الأمر على سكان الجزر فقط، بل قد يمتد لمناطق أخرى يرى النظام أن أهلها لا يستحقونها.

تفتح معركة جزيرة الوراق الباب أمام الفعل السياسي، فهي معركة سياسية بامتياز ويسهل فيها اجتذاب المواطنين للاصطفاف ضد الحكومة، خاصة وأنها تأتي على خلفية الضغوط الاقتصادية المتزايدة جراء سياسات صندوق النقد الدولي التي يطبقها النظام دون مراعاة لأي أبعاد اجتماعية.

 

المساهمون