جردة حساب الربيع العربي

جردة حساب الربيع العربي

21 ديسمبر 2017
انطلقت شرارة الربيع العربي من تونس (Getty)
+ الخط -
بعد عدة أيام، يعقد في مقر منتدى الفكر العربي بالعاصمة الأردنية عمان حفل إطلاق كتاب "الربيع العربي: الثورات والارتدادات"، للدكتور عبدالله نقرش، من الجامعة الأردنية، وقد قرأت الكتاب وسأكون أحد المعقبين عليه. 

ولست هنا بصدد عرضه، ولكنني أستثمر قرب موعد إطلاقه لأطرح السؤال: هل كان الربيع العربي مجدياً من حيث الكلفة والمردود؟ هل تقاس الأكلاف والمردود في المدى القصير أم على مدى أطول؟

يبسّط بعضهم الأمور تحليلياً، ويقول إن الربيع العربي ما كان إلا مجرد مؤامرة قادتها الإمبريالية العالمية من أجل خلق الفوضى الخلاقة، حسب تعبير وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس.

ويقول إن هذه كانت فتنة أشد من القتل، وأدت إلى هدر أموال وثروات عربية طائلة، وانتهت بحالة ضعف أغرت بنا إسرائيل وأميركا، وساهمت في إيجاد قوى إقليمية غير عربية، مثل تركيا وإيران. وكل هذه تعكس حالة عدم النضج العربي بأن ليس لديهم مشروع قومي.

ولكن الدكتور عبدالله نقرش يعتقد أن الربيع العربي، والثورات والارتدادات التي نجمت عنه هي عملية معقدة، يجب ألا تخضع للمنطق الجاهز المسطح، فقد انطوت ظاهرة الربيع هذا على ثورات شعبية حقيقية ترفض الظلم، والمهانة، وإنكار الحقوق، وتهميش فئات عريضة داخل كل قطر عربي.

وقد أدت هذه الحركة بالطبع إلى ردود فعل من قوى الشد العكسي التي ترى في التغيير تهديداً خطيراً لمصالحها وامتيازاتها، فقاومته بشدة. ويقول إننا لا نستطيع الحكم على الربيع في دولة عربية ما حصل فيها بالأسلوب نفسه الذي نحكم به عليه في قطر عربي آخر، ويعتقد أن ما جرى حتى الآن هو بداية لثورة طويلة الأجل، لم تنته بعد.

إذا قبلنا بنظرية أن ما جرى منذ عام 2010 منطلقاً من تونس وحتى اللحظة لم يكن إلا مؤامرة، وأنه كان مساهماً في حالة الفوضى التي مزّقت الكيان العربي، فإن الكلفة ستكون باهظة، وأن المردود سيكون حتى الساعة صفراً مكعباً، أي أن نسبة الكلفة إلى المردود لا نهائية.

أما إذا اعتقدنا أن الربيع العربي كان ثورة حقيقية تمكّن أعداؤها من حرفها عن طريق الصواب لردح من الزمن، فإن الأيام المقبلة قد تحمل في طياتها أنباءً أحسن وأفضل، وهي تذكّرنا بقصيدة الشاعر الإيرلندي وليام ييتس الحائز على جائزة نوبل في الآداب "لقد ولد جمالٌ قبيح"، في إشادته بفوز إيرلندا الجنوبية باستقلالها عن المملكة المتحدة، بعد معارك شرسة وقتل الآلاف. وإذا كنا من أصحاب هذه النظرية، فيصبح المردود أعلى بكثير من الصفر، وتبقى نسبة الكلفة إلى المردود تتحسن بمرور الوقت.



لن تقل الكلفة المالية المباشرة وغير المباشرة عن 2.5 تريليون دولار. وهذه تشمل كلفة المباني التي دمرت، والمصانع التي اندثرت، والإنتاج الذي تعطّل، والبنى التحتية التي سوّيت بالأرض، والملكيات المتنقلة التي ضاعت ونهبت، والأسلحة التي اشتريت، والذخائر التي استخدمت، وهذا يستثي بالطبع كلف إعادة الإعمار التي ستقل عن هذه المبالغ، ولكنها مهما تضاءلت فسوف تصل إلى تريليون دولار على أقل تقدير، وماذا عن النفط الذي بيع بأسعار بخسة، والأموال المنهوبة التي هرّبت، وغيرها.

ولكن الكلفة لا تقف عند هذا الحد، بل إن جيلاً من الشبان والفتيات في بعض الدول قد أصبح فعلاً جيلاً ضائعاً. وهنالك على الأقل 10 ملايين شخص مهجرون من بيوتهم وموئلهم، وأكثر من 5 ملايين جريح ومحطم جسدياً أو نفسياً، عدا عما يقارب ثلاثة أرباع مليون شخص فقدوا حياتهم في أماكن القتال أو في أثناء هربهم منها، أو في سعيهم للهجرة غير المشروعة إلى أوروبا وغيرها ممن ابتلعتهم البحار.


وهنالك أطفال كثر يعانون من المرض والجوع. وإذا نجوا بحياتهم، سوف يمضون ردحاً منها في العلاج والاعتماد على دعم الآخرين، لتأمين أبسط حاجاتهم وحقوقهم. وفي هذا الإطار أيضاً، فإن الأقطار العربية شهدت هجرة عشرات الألوف من العلماء والمختصين وأصحاب العقول النيرة الذين هاجروا إلى دول غير عربية.

باختصار، نحن أمام ملحمة كبرى من التآمر، والقتال، والموت، والهجرة، وكل يوم أمامنا قصة. وقد انكشف الضعف العربي في تلك الأزمات التي نعاني منها، بدءاً من الشرذمة بين صفوف المقاتلين (ليبيا، اليمن، وإلى حد ما سورية)، ومن حالات منسية مثل الصومال، وحالات بدأت تتعافى مثل سورية والعراق ومصر، ودول تتأثر بالأزمات مثل الأردن، على الرغم من إدارتها المتميزة الأزمة طوال السنوات الماضية، لكن المعضلة الأدهى أن قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، واعتراف إدارة الرئيس دونالد ترامب بالمدينة عاصمة لإسرائيل، قد زاد العرب انقساماً على المستوى السياسي، وقرّب كثيراً بينهم على المستوى الشعبي.

بعد عدد من السنوات، سنجد أنفسنا وقد أفقنا من حلم عجيب وكابوس مثير، لنرى أن شيئاً لم يبق على حاله. فالمال قد تبدّد، والثروات قد نهبت، والشعوب ثائرة غير مبالية، ولربما جيوش غير عربية تملأ شوارعنا ومدننا. وما نحن ننساه من أحوال الصومال سيصبح النمط السائد في شوارعنا، حيث تقبع في كل زاوية ثلة من قوات حفظ السلام من دولة هنا ودولة هناك، ونحن نمضي العمر سائرين من خلال الحواجز، أليس هذا حال الفلسطينيين.

لكن إذا تنبهنا، ووضعنا مشروعاً عربياً، وتفاهمنا مع دول الجوار الإسلامي، وبنينا علاقاتنا مع العالم على أساس التعامل بالمثل، وحافظنا على كرامتنا، فستصبح هذه التجارب المريرة دافعاً لبناء مستقبل أفضل، وساعتها سنقول مع الشاعر الإيرلندي، ييتس، لقد ولد جمال قبيح، لكنه يبقى جمالاً على الرغم من تكاليفه.

المساهمون